(نشر هذا المقال البحثي في الذكرى العاشرة لرحيل العلامة الدكتور علي الوردي عام
2005م – سورية .احتراما للمستجدات والملاحظات التي وردتني فيما بعد أذكرها في مقدمة
المقال تقديرا لأصحابها وزيادة في المعلومة والفائدة عن هذا العلم العراقي النادر
..
1-
ملاحظة أخرى شاكرا بها أخي وصديقي الشيخ علي العلي لأهمية المصدر في ذلك ..
:
وجهت المرجعية بدراسة تراث العلامة علي الوردي وبالأخص جاء التوجيه مباشرة من السيد
السيستاني لأهميتها الأجتماعية وأدراك سبل الأصلاح لمن يدعي الأصلاح الأجتماعي.
2-
قد
زودني العم السيد طالب الرفاعي بأنطباعاته عن العلامة الوردي وعلاقته به عند
حواراتنا في ميشكن 2010م مختصرها ...
:الأستاذ الدكتور علي الوردي من أسرة كريمة يتصل نسبها برسول الله ص وأهل بيته وهي
من الأسر الكاظمية المعروفة أشتهر منها أعلام ،وقد عاصرنا أشهرهم المرحوم السيد عبد
اللطيف الورد. هذه الأسرة كانت تعرف قبل علي الوردي بأسرة السادة ال الورد . يظهر
من أصولهم كان عملهم المشهور بالعطور. ويظهر ان الدكتور علي الوردي كان يتيما وأكمل
تعليمة وهو كبير السن عن طريق الدراسة المسائية، بحيث كان بسبب حالته الفقيرة يشتغل
عند أقاربه الصاغة كما قال لي شخصيا . لعل هذا الفقر الذي مر به في صباه الباكر
دفعه الى ان يثبت وجوده بالشكل الذي انتهى اليه من أشهر مفكري العراق بحيث كان
دائما يواجه المجتمع بصعقات كهربائية وهزات أرضية ، وكان يتحرى الصعقات والزلازل
الأجتماعية لأجل اشباع عقدة الذات له.وبسبب بركات الثوابات عند الزيارات كما أكد لي
.. كان يشبع جوعه فيها وبالأخص عند زيارة كربلاء. وقد نال شهرته بمجرد عودته من
أمريكا والتحقاقه بالطاقم الجامعي لكلية الآداب جامعة بغداد مدرسا مرموقا وملحوظا
بالتقدير والأحترام . وانتظر حتى الخمسينات ليشتهر بكتابه الفكري الأجتماعي الرائع
، خوارق اللاشعور،ولكن هذا الكتاب لم يحدث الضجة التي كان يطمح اليها حتى اصدر
كتابه في سنة 1954م ،من القرن الماضي فأحدث الكتاب زلزالا في وسطه الأجتماعي
وبالخصوص لدى أبناء مذهب مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، من معممين ومتدينين لأنه
قد جاء في هذا الكتاب بعض العبارات المستقات من مصطلحات علم الاجتماع.
فمثلا: كلمة ،النزعة الهدامة، في علم الأجتماع تعني شيئا ،ذا شأن، أي عندما يقال
لشخص له نزعة هدامة، أي أنه ثائرٌ على الباليات من الأفكار وعلى الظلم أو أن لديه
منهجية جديدة . ولسؤ الحظ أتت هذه الكلمة في المصطلح الشيوعي ولها مدلول مختلف عن
مدلولها العلمي الأجتماعي في علم الأجتماع. فتصادف ان استعملها علي لوردي في
كتابه،وعاظ السلاطين، ورفقها بالأمام علي وأبنائه من أئمة أهل البيت عليهم السلام
،فقال ما معناه في الكتاب: ان عليا عليه السلام، اورث نزعته الهدامة لأبنائه من
بعده .. فكانت هذه الكلمة كالقنبلة الموقوتة ، وقد فجرها علي الوردي على نفسه .
فقام عليه الشيعة قومة واحدة، اضطرته الى الأختفاء والتستر مخافة القتل بسبب هذا
الجهل الفكري المصطلحي،ولانه كان نوري سعيد يستخدم هذا المصطلح، كمصطلح سيء له
مدلول لايرتبط بعلم الأجتماع ، وبالتالي لايمكن ان يعتبره الناس آن ذاك مصطلحا
علميا و لايمكن ان يستخدم كمصطلح مقدس كما قصده علم الأجتماع وعلي الوردي كمدلول في
أطروحته عن علي عليه السلام وأبنائه ...
أتذكر على أثر هذه الكلمة بعد سنين كان في أحد المجالس ،ودائما كان يتحرى المجالس
الحسينية ليزداد زادا لبحوثه كعالم اجتماع بالتقاطه الملاحظات .وكان في احد المجالس
مدينة الكاظمية، واظنه في جامع الهاشمي الخاص بالسيد اسمماعيل الصدر الذي كان معجبا
فكريا بالوردي، وكان الخطيب هو الدكتور الشيخ أحمد الوائلي ،وسمع الوردي همس بعض
ممن كان من المشحونين قديما منذ عشرين سنة آنذاك نتيجة الكتاب المذكور، وعاظ
السلاطين، من ان الجالس هو علي الوردي .. فقصده هذا الرجل وسأله جنابك علي الوردي
.. فجمع كل ما في فمه وبسق في وجهه ، فما كان من علي الوردي اِلّا مسحها وهو يضحك
.. فحادثة عمرها عشرين سنة والمجتمع العراقي لا ينسا .
أقول ان علي الوردي كشخصية عبقرية سبقت العصر الذي عاشت فيه ولم يأخذ حقه بمقدار ما
له من عبقرية ونبوغ وما تركه من آثار تستحق النظروالتأمل وممكن ان تعتبرها في وقتها
قد احدثت ثورة أجتماعية في الوسط العراقي ...وعلى أثره صدرت ردود تناولتها بعض
الأقلام واشتهر بسببها بعض الأعلام اتذكر في وقتها كالسيد مرتضى العسكري الذي كان
قابعا في زواية من زوابا الكريعات ببغداد فلما الف ردا على كتاب وعاظ السلاطين
انتشر هذا الكتاب بشكل غير طبيعي ومن حينه طغت هذه الشخصية المغمورة وطفحت في
الساحة الميدانية والشارع الأجتماعي وعرف صاحبها فكان ما كان بعد ذلك .. رحم الله
الجميع ...
3-
أذكر هنا ملاحظة نصية حول العلامة الدكتور علي الوردي للعلامة الدكتور حسين علي
محفوظ
،
والتي سبكتها بكل دقية الأستاذة الأعلامية نجاة عبد الله في بحثها عن العلامة
المحفوظ فارتأيت أن أستفيد منها وان كانت نفس المعلومة والتحليل عندنا ولكن كان
لبحث الأستاذة كمصدر أهميته فأـمنى أن ترخصنا على هذا الأقٌتطاف من بحثها المنشور
عام11/11/2008م .. فبعد سؤالها عن علاقة العلامتين أجاب العلامة المحفوظ:
:
-
اما علي الوردي هناك أشياء لا يعرفها إلا قلة من الناس ومنها إنه إبن عم والدتي،
وهو تلميذ والدي ، بل ان ابي هو من رباه، والوردي كان من الأمثلة الصحيحة الصادقة
لطلب العلم في سن متقدمة درس في مدرسة الألسن (مدرسة اللغات) ونال فيها درجة عالية
وسافرالى الجامعة الأمريكية، وعاد الى العراق وكان أستاذي في مادة (أحوال العراق
الأجتماعية) في الثانوية المركزية وهذه أمورالقليل من الناس يعرفها. الوردي إهتم
بمصدرين أساسيين في معرفته وهما القرآن الكريم والحديث الشريف والسنة النبوية..
المؤسف ان بعض الناس يقولون انه كان بعيداً عن الدين... وهو لم يكن كذلك أبدا..
وهنا لا أتحدث عن الالتزام فالالتزام قضية أخرى.. كان تشخيصه للمجتمعات المعاصرة
تشخيصاً دقيقاً ومن الأمور الدقيقة جدا لديه هي شخصية الفرد العراقي، وموضوع العقل
البشري، والحضارة والبداوة، وازدواج الشخصية وهذه أمور بنى عليها نظريته
الاجتماعية.. كان الوردي صديق المجتمع وهو يجالس ويعاشر بسطاء الناس وكان يعتمد على
التدوين حين يسمع موضوعا يستحق ذلك يخرج ورقة من جيبه يكتب ما يحتاجه بدقة وإمعان..
وهو رحمه الله لا يرضى ان يتحدث أحد في محاضرته.. ومرة شاهد أحدهم يتحدث مع زميله
وحين سأله قال اريد ان اطلب منه ورقة فرد عليه انت تستمع لمحاضرة وتريد ورقة
وقلماً.. وهذا هو الطبيعي لدى من يحضر محاضرة علمية.
يكره النحو مع ان كتاباته لا تحمل خطأ نحويا.. كان يأتي من بيته في منطقة الأعظمية
ماشيا وهو (والليل إذا سجى) يكررها مع نفسه بصوت مسموع وحين سأل قال انا أصلي
ويقصد مروره على الجسروهو يردد تلك الآية.. وتنقل عنه رحمه الله نكات ونوادر كثيرة.
سئل العلامة المحفوظ:هل انت راض عمّا دونه في كتابه لمحات إجتماعية من تاريخ
العراق الحديث.. هل ذكرفيه دقائق الأمور؟
فأجاب ارجو ان تعرفوا باني لا أقرأ الكتب جميعا بل أقرأ ما أحتاجه.. بالنسبة لهذا
الكتاب هو جهد كبير ويفي بالغرض الذي كان يريده المؤلف ولكن تبقى عندي ملاحظات
عليه.. اما رضاي من عدمه هذه مسألة ليست بذات قيمة.. لكن أستطيع القول إن مؤلفاته
جميعا تمثل المستوى الأعلى في مادتها.
سؤال آخر: كيف تفسرون بعد خمسين سنة أن تكون كتبه هي الأعلى مبيعا؟
أجاب : كان رحمه الله يريد لكتابه أن يصل الى كل الناس بأبخس الاثمان.. كان يريد
لكتابه ان لا يكون أغلى من ثمن تذكرة سينما في مقعد عادي ليشتريه الناس جميعا...
وكان يردد هذا القول دائما، كان يخاطب فيه مختلف فئات المجتمع... الأديب الكبير
والفنان والشخص الاعتيادي.
سؤال آخر:على ذكر الكتب سمعنا ان الوردي حين كان يستعير منك كتابا يرجعه مجلدا؟
فأجاب العلامة المحفوظ : نعم وتلك ظاهرة حضارية وقد عرف عنه الدقة والترتيب
والأعتناء بالكتاب.
سؤال آخر:هل كان كشافا أم مربيا؟
الجواب : كان مربيا لعامة الناس وعندما كان يسأل ماهو الدواءلأمراض المجتمع يقول ان
وظيفتي هي أن أدرس الحالة الأجتماعية أما دواؤها فعلى المصلح الأجتماعي.. وهو بهذا
يعد نفسه باحثا ودارسا للمجتمع.
وسئل العلامة المحفوظ أيضا :في زيارة سابقة اخبرتنا ان المقبرة التي دفن فيها
الوردي أسميتها بمقبرة العلماء... وتلك المقبرة تقع في جامع براثا، وكان يدفن فيها
الأطفال.
فأجاب: نعم هي الان مقبرة الكبار جواد علي ، طه باقر، علي جواد الطاهر، علي الوردي
وعباس علي، ومستشرق جيكي درست عنده اللغة الألمانية يومها.. أسلم واستبصر كذلك دفن
فيها محمد علي آل يس وشخص بغدادي قديم قرأت اسمه في كتاب عن بغداد كتبه رجل بغدادي
عن احد اصحابه يقول ان الأول دفن في براثا ايضا، وبهذا يصبح عددهم ثمانية ولهذا
سمّيتها مقبرة العلماء وكتبت في وقتها مقالة طالبت فيها بعمل نصب تذكاري لهم
ومكتبة.. من المؤسف اننا لا نمتلك هكذا ثقافة في العراق( من المؤسف تحولت هذه
الساحة العلمائية التراثية الآن الى قاعة تداس عليها من قبل المحتفلين).
سؤال:هل حدث عبث في تلك القبور إبان النظام السابق؟
-لا.. لكني أعتقد ان المرحوم علي الوردي دفن بالقرب من الجدار ولا اعرف ان كان قد
نقل الى مكان آخرمن نفس المقبرة.... أنتهى)
أعود الى مقالتي :
بدات علاقتي بالدكتور على الوردي عام 1986 م عندما طلب الاستاذ جواد الغبان لحضور
مجلسه(مجلس الغبان)المعروف في بغداد شارع فلسطين لكي التقي بالدكتور على الوردي ،
لان الاخير طلب ذلك بسبب ما او ضحته حول ازدواجية الشخصية العراقية في مؤتمر الشباب
الجامعة العربية المنعقد باشراف جامعة الدول العربية نيسان عام 1985 ببغداد. اراد
الدكتور العلامة استيضاح الامر مني مباشرة من بعد ما اوضح له الدكتور الغبان انه
يعرفني ، حيث كان المؤتمر قد اذيع عبر الاذاعة والتلفزيون انذاك . حصل اللقاء والذي
كان احد اطرافه العلامة الدكتور على حسين محفوظ والتى بدات علاقتي تتوطد به شي فشي
، الى جانب الكثير من الافاضل والشخصيات الادبية التى كان مجلس الغبان دوما
يستضيفها يوم الاحد من كل أسبوع.
تحول اللقاء الى حوار جميل حول هذا الموضوع المطروح في المؤتمر المذكور ، والذي
بداه الدكتور العلامة علي الوردي بسؤال :
كيف
حللت هذا الطرح بخصوص الشخصية العراقيةعلى ضؤ اطروحتي؟ .
وقد
اوضحت ما قلت في المؤتمر والذي كان ردا على الشبهات التي طرحت من قبل بعض الوفود
العربية مستغلين الموقف السياسي منه ، وبقى الجانب العراقي صامت مع الأسف،فاوضحت :
:(ان
ما قصده الدكتور على الوردي من هذا الطرح انه طرح ايجابي يحتاج لتوضيح ولا يناسب
احيانا المفهوم السياسي ، لان الدكتور على الوردي انطلق من تاريخ العراق والنماذج
الثقافية التي مرت به والتي تمثل خصوصيات وطنية وقومية وثقافية مختلفة عاشها العراق
لفترات طويلة بين حقبة واخرى خلاف لكثير من الشعوب والامم، فبالاضافة الى تجاربه
الحضارية التاريخية المعروفة من كون العراق مهد الحضارات السبع الاولى في التاريخ
بدون منازع فقد عاش تجارب دينية مختلفة قبل الاسلام ولكنها لها خاصية التوحيد
انتهاء بالمسيحية وحضارة المناذرة ... حتى جاء الاسلام الذي وجد في العراقيين
وبالأخص المسيح الموحدين مناصرة منقطعة النظير توجت بالقادسية ومن ثم الأنطلاق منها
الى الشام لنشر الاسلام . شهد العراق بعد ذلك وبحكم خصوصيته الحضارية مركزية هذا
الاشعاع الفكري الاسلامي، وكانت اول عاصمة للأسلام الكوفة... وان يشهد العراق فيما
بعد تمركز الحركات الفكرية النشطة ومدارسها اللغوية مثل مدرسة الكوفة ومدرسة البصرة
ومدرسة واسط ...الى جانب ما يذكره التاريخ من استمرارية النهضة الحضارية والتفاعل
البناء مع العالم انطلاقا من بغداد والتاثير الحضاري الاسلامي على العالم وما معروف
عبر التاريخ من علماء ومذاهب ومدارس وحاضرات علمية الى جانب ان العراق هو الوحيد
الذي شهدت مدنه العواصم الاسلامية المهمة مثل الأنبار وسامراء وبغداد دار السلام
... وكما قيل من قبل المستشرقين لو ان الحضارة الاسلامية لم تسقط على يد هولاكو
ونفوذ اللغات غير العربية الى قاعدة الفكر الاسلامي وهي العربية والتي منعت التوسع
الفكري الذي تثيره العربية باعجازها وتكاملها خلاف النقص في اللغات الأخرى وبالتالي
تسبب التوقف من التوسع الفكري المؤثر بالبحث العلمي ... لسجلنا فتح الفضاء والعلوم
الذرية بعد تلك الفترة باقل من خمسين سنة ، ولما انتظرنا مئات السنين كي نشهد غزو
الفضاء من تجميع فكري لحضارات مختلفة فيها الكثير من بقايا الاعجاز العلمي
الاسلامي العربي .. الذي كان منطلقه العراق... على رغم ما هو معروف تاريخيا ان هذا
الأصطدام المرعب بين حضارة عظيمة متسلحة بالعلم والفكر وبين حضارة متوحشة مسلحة
بالدم والذبح، انتج امرا غريبا هو تراجع المغول على رغم انتصارهم في باديء الأمر
وتفتت هذا الغزو الدموي الموحش على ما تبقى من ساحة الحضارة الى دويلات مغولية
اسلامية تم قيادتها من قبل ابناء جنكيز خان وتيمور لنك واحفاد هولاكو.. انعكاسا لما
تبقى من تاثير شخصيات علمية عربية اسلامية مفكرة في مقدمتها الطوسي في العراق وابن
خلدون في الشام ...ولكي تمر هذه الحقب بكل خلفياتها وخصوصياتها مغذية الشخصية
العراقية بتركيبات ثقافية ليس لانتاج خصوصية عراقية بل لتعزيز الخصوصية العراقية ،
ولتاتي حقب الدولة العثمانية والثقافة التركية الأسلامية ومن ثم تشهد الساحة
العراقية صراع بين الأتجاه الصفوي والأتجاه العثماني، وبدأت اول فكرة عملية في
التاريخ الاسلامي من دولة اسلامية ثانية . تشكلت مثل هذه الدولة والتي اعترضت عليها
المسلمون كافة بمختلف مذاهبهم وأيضا العثمانيون، من انه لايجوز ان تكون هناك دولة
ثانية وبالأخص ان الصفويين ايضا اتراك وتشكل الدولة الثانية ليست لموضوع عقائدي بل
لحل مشكلة مصلحية فضلا عن الرغبة بالتسلط والسلطة فكانت أول جريمة تقسيمية في حياة
الأمة. أن الصفويين بداو التمركز في ايران ولم ينقذهم هذا الصراع، والذي بات العراق
ساحة عملياته ختى بعد ان تخلت ايران الصفوية عن المذهب السني لغته الفارسية خلاف
المذهب السني بلغته التركية للدولة العثمانية ومحاولات كلا الدولتين مسخ العربية
مما أدى الى انحرافاتن شديدة في الأسلام لأعتماد الدولتين ومفكريها على لغات تختلف
عن اللغة العربية التي استوعب الشمول الأسلامي وعلميته الى محددات الفلسفة الفكري
لتلك البلدان والشعوب ليكون الأنحراف الفكري الأسلامي منظرا له خلاف ما الأنحرافات
السابقة التي كانت غير منظر لها سوى انها تعتبر مواقف شخصية وليس بمستوى التنظير
المذهبي والعقائدي. أعلنت الدولة الصفوي المذهب الجعفري وليبقى العراق بحاضرته
النجف ملعبا مستمرا لصراعات النفوذ الايراني التركي ولتبقى الدولة المشعشعية ومن
بعدها الدولة الكعبية العربيتين على ساحة الخليج الشرقي وشط العرب المتنفس الوحيد
للعراق و للاسلام العربي بمذاهبه وان كان مذهبهما الأساس المذهب الشيعي أيضا، حتى
سقوط الدولة العثمانية.
جاءت الثقافة الانكليزية وصراعات القوى العظمى وطرفها الآخر المانيا ومن ثم امريكا
والأتحاد السوفيتي، بنظرياتها القومية والرأسمالية والأشتراكية والعلمانية وغيرها،
وحقب من نشاة التيارات السياسية والفكرية المختلفتين، وكان أعلان دولة العراق
واقتطاع اجزاء منها ثلها مثل الأمة العربية والأسلامية، الى عوامل انشغال العقل
العربي ومن ضمنه العقل العراقي بتكون الرؤى المعاصرة والذي أعتمد كثيرا على تلك
التيارات والصراعات المذكورة، وبات الهم الاساس الهم السياسي والتنظير له على ضؤ
استنساخات فكرية من هنا وهنا والتأثر بقاعدة الحركات الفكرية الغربية والتنظير على
شاكلتها، انطلاقا من فاجعة سايكس بيكو ،، والدخول الى عالم جديد بدأ بثورة العشرين
وتاسيس دولة العراق . دخل العراق في دوامة ثقافية جديدة من مستجدات المرحلة ...
وهكذا الى يومنا هذا دون الاستقرار على نموذج ثابت ، ويعود السبب الى عدم قناعة
العراقي وبالأخص المفكر منه، بكل الأطروحات ليعيش الصراع من أجل واقع اكثر صدقا
وتفاعلا مع النفسية العراقي المعروفة ببساطتها من جهة ومن جهة اخرى بسؤ ظنها تجاه
الأحداث والعالم الناتج من موروث حضاري ترسخ في الشخصية العراقية المتطلعة الى
السمو في الفكر والثقافة وهذا التطلع ايضا ناتج من ذلك الموروث المحفز دوما في
النفسية العراقية نحو الأفضل وعدم القناعة بكل شيء حاضر...وبالنتيجة فما عبر عنه
الدكتور على الوردي عن ازدواجية الشخصية، هو نتاج دراسة علمية اجتماعية عبر التاريخ
لتحولات الواقع العراقي ومؤثراته في الفكروالمجتمع بما اراد ان يوضح ان العراقي
بات مركز تفاعل حضاري ثقافي منذ فجر التاريخ الى يومنا هذا وبامكانيات استيعاب
اعجازية .. وما زال له القدرات على الأستيعاب والتفاعل مع الثقافات ،وبالتالي يكون
خطرا عند ما يمنع من هذه الخصوصية المتميزة شخصيته بها، والتاريخ القديم والمعاصر
يؤكد هذه الحقيقة العنفوانية في الشخصية العراقية... )
وكان حوار المجلس يدور حول هذه النقاط في صمت مطبق من قبل الدكتورعلى الوردي
ونظرات قلقة نحوي من قبل الدكتور علي حسين محفوظ وحركات مشفقة على حالي من قبل
الدكتور محمد جواد الغبان حتى انتهى النقاش لساعة غير متاخرة من الليل وغير معتادة
في المجلس ، ليكسر الدكتور على الوردي طوق صمته ويلفظ كلمة:
:
احسنت .. هذا ما قصدته.
توطدت علاقتي به منذ ذلك اليوم ، واستمرت هكذا حتى طلب منى الدكتور جواد الغبان
حضور العلامة الشيخ عيسى الخاقاني الى مجلسه . كان الدكتور الغبان يعز بعض الشخصيات
الخاقانية كونه كان استاذهم في مدارس النجف ومنهم الشيخ عيسى الخاقاني والمرجع
الشيخ محمد محمد طاهر الخاقاني وصداقته العميقة مع الوالد . و كان سبب هذا الطلب
مثلما اكتشفته فيما بعد رغبة العلامة الوردي والعلامة المحفوظ وايضا الدكتور الغبان
لتسائلات كثيرة ترد حول شخصية الشيخ عيسى الخاقاني وعلميته ودوره الاسلامي وكان
الدكتور المحفوظ واخرون قد سمعوا من السيد الخوئي رحمه الله، ان الشيخ عيسى من
ثقاته ، وكان الدكتور الغبان يذكر مدح السيد محمد باقر الصدر رحمه الله بالشيخ عيسى
الخاقاني. طرحت الموضوع على الشيخ عيسى الخاقاني في احد زياراته الى العراق ،, وما
ان سمع بالغبان حتى رحب بالذهاب لكونه من اساتذته، وزاره مع ولده الدكتور محمد
الخاقاني ومنذ تلك اللحظة توطدت العلاقة بين الدكتور على الوردي الذي اعجب باراء
العلمية للشيخ وايضا الدكتور على حسين محفوظ وكانت هذه العلاقة مثمرة فيما يخص
تسائلات العلامة الوردي حول على شريعتي حيث كان الشيخ له علاقة متينة بدكتور على
شريعتي ومن منتقديه ومن المؤثرين عليه في تصحيح بعض وجهات نظره الاسلامية الخطيرة،
وقد استجاب على شريعتي بروح علمية لهذه التوجيهات التي كلف بها الشيخ عيسى من قبل
اخيه الشيخ محمد طاهر الخاقاني والسيد شريعتمدار والسيد الخوئي رحمه الله.
كان الدكتور على الوردي والدكتور على حسين محفوظ على علم بهذه العلاقة وكانت لديهم
الرغبة بتوضيحات مباشرة من الشيخ ،, وما تمر الايام حتى طرح كل من الدكتور على
الوردي فكرة مجلس في الكاظمية يرعاه الشيخ ،ليكون متنفسا لمفكري مدرسة أهل البيت
وقد ايده مباشرة الدكتور المحفوظ ولكن جعله مجلسا عاما للثقافة والفكر دون محددات
وقد طرح الموضوع على شخصيات مهمة كثيرة، وقد ايده بحرارة السيد حسين أسماعيل الصدر
حفظه الله في الكاظمية ويكون من رعاة المجلس في غياب الشيخ..وبالتالي فقد اعلن
الدكتور الوردي والدكتور المحفوظ في عام 1986تاسيس مجلس الخاقاني في الكاظمية
وكانا عموداه الاساسيان الى جانب السيد حسين الصدر الذي كان على علاقة وثيقة بالشيخ
الخاقاني ، ويكن للشيخ الاحترام بسبب أحاث تأريخية تربطهما سوية نتركها للمختصين
وأهل المعلومة والخبرة . كان هذا المجلس بادارة الدكتور محمد عيسى الخاقاني والذي
بات من المتابعين للعلامتين المذكورين في كل شؤونهم الحياتية وفي خدمتهم . شهد هذا
المجلس الصولات والجولات للعلامة الوردى ومحفوظ الى جانب اهم الشخصيات الفكرية
والأدبية العراقية والعربية وليضيف اضافة نوعية لمجالس بغداد العظيمة الخالدة ،
الى جانب الحوار الاسلامي الفكري الذي استمر في كل يوم اثنين وبالأخص الحوارين ما
بين طرح العلامه الشيخ احمد الكبيسى وبين الرد للشيخ عيسى الخاقاني ولمدة ثلاثة
اشهر في التسعينات والذي استقطب مراجع الفكر العراقي جميعا.
ان
خزينة ارشيف هذا المجلس تحفظ هذا الكنز العظيم لمن يريد المتابعة في البحث عن
الوردي ومحفوظ وغيرهم مما لايمكن الحصول عليه من جهة اخرى. لعب هذا المجلس دورا في
رحلات مكوكية بين النجف وبغداد وبعض المحافظات كاسرا طوق حصار العلاقة بين النجف
والدكتور على الوردي بسبب اراءه وبقيادة الدكتور المحفوظ وادارة الدكتور محمد عيسى
.. وقد نشطت مثل هذه العلاقات التي حركت البحيرة الثقافية للثقافة العراقية نوعا ما
، وكان المجلس محط انظار الصحفيين والأعلاميين امثال الأستاذ الصحفي سلام الشماع
الذي كان معروفا بامين سر الدكتور على الوردي والدكتور المحفوظ وبات امين سر المجلس
ايضا كما كان للأستاذ زهير العامري الصحفي المعروف دورا في ذلك وفي تشجيع الأستاذ
سعد البزاز في نشر دراسات الدكتور على الوردي والدكتور المحفوظ دون قيد او شرط ودون
رقابة.
يبقى سلام الشماع والدكتور محمد الخاقاني المعايشين الحقيقيين للفترة الاخيرة
للدكتور الوردي الممتدة من 86_1995 الى لحظة وفاته ويحملان اسراره المهمة والجزء
الأخير من مؤلفاته. واما انا فلدي ذكريات جميلة الى جانب المجلس واحاديثه الشيقة
وقصصه التي تستحق إن تجمع من هذا الرجل المبدع دون ان يأكلها النسيان أو تذهب مع
رحيل مسجليها في ذاكرتهم...
جمع لقاء بين الدكتور علي الوردي والدكتور المحفوظ واخرون في مجلس الخاقاني في عام
تسعين مع الشيخ محمد محمد طاهر الخاقاني وكان النقاش يدور حول مستوى اهتمام المراجع
بعلم الأجتماع والتاريخ وكان الشيخ قد الف كتابا في علم الأجتماع من ثلاثة اجزاء
اثار اهتمام الدكتور الوردي كثيرا وعلق على الكتاب كما أنه قد علق من جانبه الدكتور
المحفوظ والتعليق اتركه للمعنيين وللشيخ ، وربما لوقت آخر لأهميته من وجهة النظر
الاسلامية ومن كونه اول بحث اجتماعي مهم يطرحه رجل دين كما عبر عن ذلك الدكتور
الوردي.
وفي عام 1992م منح الشيخ محمد امين زين الدين رحمه الله، الى جانب المراجع الاخرين
ومنهم السيد الخوئي اجازة رواية الى العلامة الدكتور على حسين محفوظ قدمها له
الشيخ ضياء زين الدين ابن الشيخ الجليل واقيم الحفل والتقديم في منزلنا وقد همس
الدكتور الوردي في اذني: لماذا لايمنحني المراجع اجازة رواية هل لأني اتكلم الصدق؟
فسمعه الدكتور المحفوظ ليستغل الفرصة امام الشخصيات موردا فضائل الدكتور على
الوردي تاريخيا وعلميا وانفراده المعاصر في اختصاص فريد على الساحة العراقية وهو
الأجتماع .
وعشت لقاءه مع شبكة الاخبار الامريكية والبريطانيا في منزله في الأعظمية عام 1993 ،
وكان جوابه على سؤال الصحفي البريطاني: لماذا لاتهاجر الى بريطانيا فلك منزلتك
المهمة هناك واعيد في بريطانيا طبع مؤلفاتك...؟ ,
فاجاب: لايمكن ان أكون عالم اجتماع انكليزي فانا عالم اجتماع عراقي ومهما تكون
الظروف هنا فهي تخدم حاجة البحث عندي ...
وكان الصحفي ينوه ان في خروجه من العراق فرصة منحه جائزة نوبل ، فرد الدكتور
:فأنا لست بحاجة لجائزة نوبل فالعلم والعراق جائزتي.
كان
بعد إن ينتهي مجلس ألخاقاني، يبدأ مجس أخر كنا نسميه المجلس الوردي أو المحفوظ ،
حيث يحتكرا الليل ويعلق الوردي على كل شاردة وواردة وردت في المجلس وبالأخص على ما
يسمعه ضده من أراء فيدعي إن سمعه ثقيل. وكان يتعمد ذلك لكي لايدخل في نقاشات كما
عبر عنها لاجدوى منها ، وكان يحلل الحرب الأمريكية العراقية آنذاك، بتحليلات جاءت
بصوابها بعد سنيين وفاته لما حدث للعراق، وان أترك الآراء هذي لمن سمعها من
الحاضرين وأهل الخبرة والمعلومة .
كان
يروي لنا قصص ظريفة مهمة من حياته وما يحدثه له اختصاصه من احراجات في الوسط
الاجتماعي العراقي المتحفظ والديني وما سبب له هذا الاختصاص من عداء في الوسط
الديني من كراهية ، لان اختصاصه يحتاج لبحث جريء في اعماق النفس البشرية وهذا ما
يرفضه الأنسان العراقي ، فروى لنا في احدى الجلسات ما بعد المجلس :
:اِنه
في احدى السنين كان يبحث عن علل انحرافات النساء في دور البغاء.
احد نماذجه كما هو معروف في مثل هذا الوسط شارع لالة زار في طهران. تكلم مع احدهن
في المبنى الخاص لهذه الممارسات، فراه هناك احد الشخصيات المهمة التجارية والمحافظة
في الكاظمية وقد عبس عليه. وفي احد الايام كان يمشي في اسواق بغداد الكاظمية وصادف
ان مر على محل تجارة ذلك الشخص وشعر انه يعلق عليه مع جالسين معه . ما ان اقترب من
المحل حتى خرج التاجر المحافظ وبصق بوجهه، فوقف الوردي ومسح الآثار وعاد اليه وقال
له :
:
الناس تعرف ما كنت افعله هناك، ولكن انت المحترم ماذا كنت تفعل هناك؟
صعق الحاضرون من الأجابة وانفجرت جماعته بالضحك...
قد
عشنا آراء العلامة الوردي بخصوص الحرب الأمريكية العراقية، قبل ضرب العراق وفي
الضربة الأولى وهي من اخطر الآراء واترك توضيح الرأي إلى لحظة نشرها وهي بين أيدي
أمينة للأستاذ سلام الشماع والدكتور محمد الشيخ عيسى ألخاقاني . علما بعد احداث عام
1991، اعلنت دولة العراق اهتمام كوادرها بدراسات منظمة عن اطروحات علي الوردي
لتحليل وتفسير ما جرى من احداث في العراق .
كنا نقضي بعض نهارات القصف للتحالف سوية، وفي احد الأيام ونحن نسير من بيته في
الأعظمية إلى بيته القديم في الكاظمية، وهي عادة قد اعتادها لطول عمره الذي تجاوز
التسعين. التفت إلى بدالة الأعظمية التي كانت لم تقصف بعد وهي سالمة، ولم يكن قد
علق عليها حتى علق عليها ذلك اليوم:.. أتدري يا بهاء... ستقصف الليلة ...فدهشت...
واكمل سيضربونها الليلة...
وما كانت الساعة الرابعة صباحا وكان معي كلٌّ من سلام الشماع وزهير العامري حتى
اهتزت الأعظمية، فقلت لهما: ضربت بدالة العظمية..
فردّا عليّ :ماذا تعلم الغيب؟ ..
وفي
الصباح الباكر ، وجدناها سوية محطمة.
عجلت في الصباح بالذهاب للدكتور على الوردي وانأ احمل كعادتي في كل يوم جريدة
الجمهورية بطلب منه الى سلام الشماع وبيدي لأسلمها اليه ..
وقلت له: كيف عرفت انها ستضرب الليلة كما أخبرتني أمس ؟
بابتسامته المعهودة وكأنه ينتظر سؤالي ، ولكنه أجابني بألم وتهكم: ألا تعلم إن هذا
الوزير للأتصالات العبقري قد صرح أمس إن البدالة قد أعيد تصليحها .. حيث كانت معرضة
لحريق قبل الحرب.. وحسب تصريح هذا العبقري ان البدالة ما إن تنتهي الحرب ستعمل
بكامل طاقتها .. وما إن صرح بالمعلومة حتى قصفت ...
والتفت نحوي وهو يغلق باب بيته بالعظمية قائلا:أ تدري ستقصف هذه الليلة ... ؟ ..
وما ان أحس بدهشتي قال : اذكر لك السبب غدا ..
وبالفعل قصفت واعطت ضحايا وشهداء لثلاثة عشر عائلة ممن كان يعتقد ان المكان لايقصف
بعد القصف الأول الذي لم يعطي ضحايا، واستفسرت منه بدهشه في اليوم الثاني ...
فاجاب مبتسما: ان السبب هو نفسه الوزير العبقري صرح ان البدالة الأصلية في سردابها
الأرضي وما تعرض له القصف سوى البناء الخارجي.
ومما ادهشني ايضا في تلك الايام وبالضبط في شباط 1991م ،حيث قال لي ونحن نعبر جسر
الأعظمية المغطى بالدخان بسبب شدة القصف ودخان الحرائق والأطارات المحترقة بانه:
أعتقد سيقوم الأمريكان بمجزرة خلال ايام قليلة ...
وما
كان يوم حتى حدثت مجزرة ملجا العامرية ، وسالته عن السبب ..
قال : هي استنتاجات من سيرة الحروب البريطانية والأمريكية فلهم مثل هذه الضربات
واذا لم تتوقف الحرب خلال أيام لسبب أو أخر .. انتظر ضربة مثل الضربات لليابان ...
وقد
زار الملجا بعد ايام من ضربه وكنت معه وانا اسمعه يلفظ الفاظا لم اجرء ان استفسر
منه ما معناها واستمر بزيارته للملجأ وانا معه لمدة ثلاثة سنوات بعدها وهو يضع وردة
في بوابة الملجأ، ويهمس نفس الهمسات التى لاافهم معناها ...والتفت نحوي في احداها
..
وقال لي:احفظ هذا مني ان كان ما حللناه صحيحا وما روي عن العراق صادقا فعلينا تحمل
مثل هذه المآي وغيرها كي يكون العراق قيادة العالم من جديد.
كانت في تلك الليالي الحربية تجمعنا مائدة مستديرة في سرداب جريدة الجمهورية على
ضياء الشموع ورطوبة الأرض والجدران في لحظات القصف وورشة بسيطة محمولة من طوابق
المبنى للعمل الصحفي. بالأضافة الى العلامة الوردي والعلامة المحفوظ، اطرافها ما
تبقى من الأعلاميين ليلا في مقدمتهم الأستاذ زهير العامري الذي تولى ادارة
الجمهورية في غياب الأستاذ سعد البزاز، الذي كان في الاردن الى جانب الصحفي سلام
الشماع و الشاعر الرقيق ابو ايلاف الياسري وهو يضيفنا ما تبقى من الشاي والخبز
والجبن وثم يدخل علينا الدكتور محمد الخاقاني وهو يحمل بعض المشتريات. كانت احدى
الليالي التي هددت فيها امريكا بضرب وسائل الاعلام بدأ بالجمهورية لانهالرئيس
الامريكي بوش الأب لم يعجبه السياسة الأعلامية للصحف العراقية وحاول زهير العامري
ان يثني المحفوظ والوردي من البقاء فابتسم الوردي قائلا :
:
لاعليك انهم يحترمونني ووجودي حفاظا عليكم وسوف لايقصفوكم ...
فقال الاديب السيد الياسري:... يا دكتور من اين يعرفون ؟
فقال : هذه امريكا لها قوة الشيطان تعرف كل شيء ...
وابتسم الجميع ضاحكا ،وضربت الجمهورية بالفعل واهتز المبنى وهشمت النوافذ ولكن
الضربة جاءت في مبنى الحاسبة في جوار الجريدة بالقرب من الجسر الحديدي في باب
المعظم و سرعان ما اعلنت امريكا انها ضربت الجمهورية وصحف أخرى بعد ربع ساعة من
القصف .. وقال الدكتور الوردي معلقا : ستضربون مرة اخرى ...
وطلب العامري من العلامتين ان لايسهران في الجمهورية من جديد فب أيام أخرى، ولكن
اعاداها مرة اخرى وبالفعل قصف طرف الآخر من الجمهوري ولكن وقع القصف الغالب في
مزارع الوزيرية واعلنت امريكا انها تخلصت من الجمهورية ولم تقصف بعد ذلك.. ولتلك
الليالي قصصها وحكمها ومعيشتها مع هؤلاء العلماء بحق والمجال لا يسع لهذه
الذكريات.
كنا نشجع الوردي ان يتبرع بمكتبته الرائعة بالمصادر والمراجع مثلها مثل الدكتور
المحفوظ الى الدار الوطنية والغريب كان يردد: اعتقد ان الدار الوطنية ستحترق وانها
ستقصد بموامرة لتدمير وثائق مهمة بها ...
على
رغم ما كان يبدي اعجابه بها لاستثناءات فيها تتميز على الكثير من البلدان ولكن كان
يبدي مثل هذه المخاوف والتي كنا نستغرب من طرحه ونجادله حتى جاء ما حدث في يوم سقوط
بغداد من احراقها وفقدان الكثير من الوثائق المهمة .
نحتفظ للوردي تعليقات وملاحظات مهمة ربما ياتي وقتها للنشر ومساجلاته الجميلة
بالأخص مع العلامة الشيخ جلال الحنفي في مجلس الخاقاني وجاءت هذه المحاورات بعد
قطيعة بين الطرفين لعب الدكتور محمد الخاقاني دورا في لم شملهما بمباركة من العلامة
المحفوظ ومتابعة حثيثة من سلام الشماع الذي هو الآخر كان من المهتمين بشؤون الهلامة
الحنفي. كانت قصة التحدي بين الحنفي والوردي للمبيت في بيت مسكون بالجن، بين تاكيد
الوردي على عدم وجود الجن وهذه خرافة وبين تأكيد الحنفي على ذلك، ليحصل التحدي وهذا
موضوع طويل . تبقى قصص واحاديث الوردي لاتنسى من الذاكرة حيث تلهب عقل حامليها من
امثالنا ونحن نعايشهم للاشتعال والانفعال حكما وموعظة حتى ولو حملت في طياتها
السخرية والهزل وهذا كان من اساليب الوردي الناجحة في التاثير والأثارة في النفس
ليجعله مدخلا علميا جديدا له.
وانقطعت منه لمدة من الزمن حوالي عام 1995م لاتفاجأ وانا في الأردن ان الدكتور
العلامة على الوردي في الاردن ويشرف على علاجه الدكتور محمد الشيخ عيسى الخاقاني
وبتوجيه من والده. زرته وكان في حالة ميؤوس منها فاعاد علىّ ان لاننسى مشروعه الذي
طرحه هو والدكتور المحفوظ في تاسيس مجلس اخر باسم الخاقاني في منزل الوالد الأستاذ
ضياء الدين الخاقاني بالبصرة الى جانب مجلس الخاقاني في بغداد وديوان الخاقاني في
النجف وال الخاقاني عند عشائر ال جويبر في الناصرية أسوة بما لها من امتدادات في
العالم ومنه العربي فضلا عن المحمرة وقم. كان رايه مع العلامة المحفوظ ان مثل هذه
المجالس جامعات مفتوحة لاتحتاج الى تسجيل او امتحان،وعلى العوائل العلمية ان تتحمل
مثل هذه المسؤولية في كل زمان ومكان ومهما كانت الظروف والمخاطر والتضحيات فهذا
واجب مقدس. وكان هذا المشروع قد حصل على دعم ومباركة السيد الخوئي والشيخ محمد امين
زين الدين ودعمهما الى جانب رغبة بعض الشخصيات البصرية العلمية والأدبية والعشائرية
وبالاخص ال الميرزا.
اقترح الاطباء اعاد العمة الوردي الى العراق ،فاعيد لها وامتنع في الأيام الاخيرة
كليا عن الأكل والشرب ، فأصابه الجفاف والنزيف الداخلي . علمت انه قد توفي بعد ان
تجاوز التسعين من عمره ، ولتقام له الفاتحة في المجلس الذي اسسه مع العلامة المحفوظ
وهو مجلس الخاقاني وليؤبنه المفكرون والأدباء والشعراء وليمجده خصومه قبل مؤيديه
ولتحضر ممثليات المراجع والمحافل الرسمية والمؤسسات الدولية ،وحتى من كان له رأي
به، لانه علم من اعلام الفكر الأنساني وقد ارسلت قصيدة رثاء آنذاك وأنا على بعد من
بغداد، فألقيت في يوم اربعينيته رثاءا له في المجلس . ومن عباراته التي كان دوما
يكررها علينا :
(إن
شورى الإسلام هي حقيقة الديمقراطية الإلهية وان دولة الإمام علي هي دولة حقوق
الإنسان وإلا فلا... وهذه تجربتي في الحياة)
وان موضوعي هذا اتمنى ان يكون عاملا محفزا لكتابات عن هذا الرجل الذي شغل الناس
لأعوام من نشاطه الفكري . كان في جانب اختصاصه ممثلا للعراق ومتعصبا له بوطنيته وهو
في وسط دوامة الصراعات ،وليتميز بامتياز قوة تحمله للظرف الذي عاشه في الوقت الذي
ضعف فيه الآخرون بين استسلام وهجرة ورحيل من امثالنا.
بهاء الدين الخاقاني