واصلت " زينب الغزالي " الدراسة في المرحلة الأولية ثم الابتدائية (الإعدادية في مصر الآن) وعندما توفى والدها ـ رحمه الله ـ انتقلت الأسرة إلى القاهرة, لتكون بجوار سعد الدين (الابن الأكبر الذي يدرس الهندسة في العاصمة), وبالانتقال إلى القاهرة تغيرت أمور كثيرة في حياة زينب.

كانت المرحلة السابقة مليئة بالحيوية والنضج المبكر, وفي المدرسة الأولية والابتدائية برزت شخصيتها القيادية, فقد كانت مولعة بحب بالخطابة وإلقاء الشعر والترحيب بالضيوف وكانت تلقي كلمة الصباح في طابور المدرسة.. كان هذا السلوك يثير غيرة شقيقها الأكبر "سعد الدين" ويسبب له الكثير من الحرج بين زملائه وأصدقائه الذين كانوا يتحدثون معه عن شخصية أخته القوية, وماذا قالت وكيف تصرفت, وكان هذا يزيد من غيرته عليها وغضبه من كلام الناس عنها.

وعندما انتقلت الأسرة إلى القاهرة بعد وفاة الوالد, سعى سعد الدين لمنعها من الدراسة واستكمال تعليمها, وقد كانت الظروف العامة في المجتمع المصري مهيأة لذلك؛ فتعليم المرأة لم يكن أساسياً ـ كما هو اليوم ـ والطالبات اللاتي كن يدرسن قلة قليلة, بالإضافة للظروف الخاصة في الأسرة من ضغط النفقات, ورغبة الأم في أن تؤهل ابنتها للزواج بديلاً عن التعليم.

حاولت زينب بكل ما تستطيع أن تواصل تعليمها, إلا أن الظروف كانت أقوى منها فتوقفت عند مرحلة أقرب إلى الصف الأول الثانوي الآن, ولكنها لم تستسلم ودفعتها روح التحدي وقوة الشخصية والحرص على تنفيذ وصايا والدها, إلى مواصلة القراءة الحرة والتعرف على رموز المجتمع السياسية والفكرية والأدبية والنسائية, وبدأت تراسل بعض هؤلاء الرموز ومنهم: الكاتب والأديب الكبير عباس محمود العقاد, الذي اتصل بها واستقبلها وأعرب عن سعادته بدأبها وإصرارها وحماستها برغم أنها كانت في الخامسة عشرة من عمرها, كما اتصلت بغيره أيضا من الشخصيات والرموز.

وفي تلك الفترة قرأت إعلاناً في إحدى الصحف عن دورة تدريبية في التمريض يقيمها الاتحاد النسائي المصري, الذي تتزعمه السيدة هدى هانم شعراوي, وأن هذه الدورة ستعقد في باريس, وقررت أن تخوض التجربة وأن تتقدم بأوراقها للاتحاد النسائي؛ عسى أن يقع عليها الاختيار للسفر إلى فرنسا.

هل كانت تسعى زينب للمشاركة في تلك الدورة بالفعل لتتعلم مبادئ التمريض؟, أم كانت تسعى للخروج من الواقع الذي تعيشه والضغوط التي تحاصرها؟ السياق العام لحياة " زينب الغزالي " يؤكد أن الاحتمال الثاني أقرب إلى الصحة؛ فقد كانت تبحث عن التغيير الذي يفتح أمامها الطريق لظهور شخصيتها وأداء رسالتها.. لكن الله قدر لها أمراً آخر, فقد تعرف عليها المسئول الذي يتلقى أوراق المتقدمين للدورة, وكان يعرف والدها وعائلتها الكبيرة, وبالتالي رفض بشدة أن تنضم إلى هذه الدورة المخصصة ل " الفقراء ", ولكنها أصرت على تقديم الأوراق والمشاركة في الدورة, وأصر هو على الرفض واحتكما في النهاية إلى رئيسة الاتحاد السيدة هدى شعراوي, التي أعجبت بشخصية الفتاة القوية والجريئة, ودعتها لزيارتها في مكتبها كي تتعرف عليها أكثر, بعد أن وعدتها بأن تسعى لقبولها في المجموعة المقرر سفرها إلى فرنسا.

سارت الأمور بعد ذلك بشكل طبيعي, لكن رؤيا منامية غيرت وجهتها وقرارها.. جاءها والدها في المنام وطلب منها عدم السفر في هذه البعثة, فقررت على الفور إلغاء الفكرة, واعتذرت للسيدة هدى شعراوي واستقبلتها بعد ذلك رئيسة الاتحاد النسائي لتطلب منها الانضمام للاتحاد والمشاركة في أنشطته وفعالياته.. وبالفعل أصبحت زينب الغزالي عضوا في الاتحاد النسائي.. كان ذلك وهي في الثامنة عشرة من عمرها ( عام 1935 ).

وجدت السيدة هدى شعراوي في " زينب " قوة الشخصية, وأمارات التحدي, وملامح الزعامة, فاحتضنتها واهتمت بها وشجعتها, بل إنها رشحتها بعد ستة أشهر من انضمامها لعضوية مجلس إدارة الاتحاد النسائي المصري, وهي في هذه السن الصغيرة! في الوقت الذي كانت فيه عضوية مجلس إدارة الاتحاد مقصورة على زوجات كبار رجال الدولة من الأمراء والوزراء والباشوات, وبالتالي وجدت معارضة شديدة, لكن السيدة هدى شعراوي أقنعت عضوات المجلس بأهمية انضمام " زينب " لمجلس الإدارة, وبالفعل أصبحت عضوا في مجلس إدارة الاتحاد النسائي المصري عام 35 / 1936.

كان الاتحاد النسائي هو أول هيئة نسائية تنشط في مجال المرأة على مستوى القطر المصري, وربما على مستوى الوطن العربي كله, وكان يهدف إلى الدفاع عن حقوق المرأة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بمرجعية علمانية غربية ليبرالية, وبالتالي اشتهر بابتعاده عن الدين, لكن هدى شعراوي ـ كما وصفتها زينب الغزالي ـ كانت شخصية متدينة تصلي وتصوم ولا تخاصم الدين عن علم, ولكن عدم المعرفة الصحيحة لتعاليم الدين كان عائقاً أمام رؤية الاتحاد النسائي.

وعقب انضمام "زينب الغزالي" لمجلس إدارة الاتحاد النسائي المصري بفترة قصيرة, أعلن الأزهر الشريف عن برنامج لإلقاء عدة محاضرات عن مكانة المرأة في الإسلام, رداً على الجدل الدائر ـ في ذلك الوقت ـ حول تعليم المرأة وحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ومن ثم انتدب الاتحاد النسائي ثلاثة من عضواته, هن: سيزا نبراوي وحواء إدريس وزينب الغزالي, بهدف الرد على ما يطرحه الأزهر من آراء, ربما تتعارض مع توجهات وآراء الاتحاد النسائي.

وحضرت العضوات الثلاث أولى المحاضرات, وبدأت زينب ترد على المحاضر وتعلق على آرائه, وكادت أن تفسد عليه محاضرته بتدخلاتها وجرأتها في الرد والنقاش, لولا أنه توصل معها إلى اتفاق, مؤداه أن تستمع إلى محاضراته لمدة سبعة أسابيع, على أن يتركها هو سبعة أسابيع أخرى تتحدث بما تراه وهو يستمع دون أن يقاطع أي منهما الآخر, وكان المحاضر هو الشيخ محمد سليمان النجار مدير عام الوعظ بالأزهر الشريف.

ولكن الاتفاق تم دون أن تعود " زينب " في قبوله أو رفضه إلى قيادة الاتحاد النسائي التي أوفدتها, وهو ما أثار حفيظة زميلتيها سيزا نبراوي وحواء إدريس, فانسحبتا من المحاضرة وعادتا إلى الاتحاد احتجاجا على ذلك, لكن السيدة هدى شعراوي عندما عرض عليها الموقف  أيدت " زينب " في تصرفها الذي لم تقصد به إنكار حق الاتحاد أو الاستهانة به.

وبدأت زينب تستمع إلى محاضرات العالم الجليل والشيخ الذكي والفقيه الواعي والمتحدث المؤثر, وشعرت بأن هناك مفاهيم كثيرة كانت غائبة عنها بدأت تتضح أمامها, واستطاع الشيخ النجار أن يدخل إلى أعماقها, وأن يستولي على عقلها وفكرها بحديثه العلمي والواقعي, وأن يعيد إليها الرؤية الصحيحة التي جاء بها الإسلام عن المرأة ودورها ورسالتها ومسئوليتها.

عاشت زينب الغزالي بعد هذه المحاضرات القيمة في صراع فكري, بين رؤية الاتحاد النسائي للمرأة ومكانتها ودورها وحقوقها, وبين الرؤية الإسلامية الخالصة التي اتضحت أمامها جلية في محاضرات الأزهر الشريف.. هي كانت ترغب في العمل والحركة والنشاط وإيقاظ المرأة المسلمة, كوسيلة لنهضة الأمة وتشعر أن الطريق عبر الاتحاد النسائي ليس معبراً عما في داخلها تعبيراً حقيقياً, وليس هو ما تحلم به وتعيش من أجله, إنها تريد طريقاً واضحاً خالصاً لله عز وجل.

وعاشت في هذا الصراع النفسي حتى وقع لها حادث كبير أخرجها من هذا المشكلة وغير مجرى حياتها مرة أخرى,

والقصة تبدأ عندما واصلت والدتها ضغوطها على ابنتها كي تتعلم وتتقن أعمال المنزل من طبخ وتنظيف وترتيب وتجهيز وغسيل وإشراف ومتابعة..الخ, وبالتالي تنجح كزوجة وربة بيت, مثل كل بنات جنسها .. وإزاء هذا الضغط المتواصل, دخلت زينب المطبخ, وفي أول عمل لها, أشعلت "الوابور" وسرعان ما أمسكت النيران بثيابها, ليتم إنقاذها بعد أن طالت النيران أجزاء واسعة من جسمها وبخاصة وجهها, وتم نقلها على الفور إلى المستشفى القبطي ( أحد المستشفيات الشهيرة في شارع رمسيس بقلب القاهرة ), ليشرف على علاجها طبيب مسيحي يعرف الأسرة, وبعد الإسعافات الأولية ووضع المراهم والدهانات المناسبة لعلاج الحروق, قام الطبيب بتغطية الأجزاء التي تعرضت للنيران بالشاش الأبيض الذي غطى جسمها كله تقريبا.

وعندما أفاقت من الإغماء وبدأت تسترد وعيها, ورأت هول ما جرى لها, نذرت لله تعالى نذراً إن شفاها من هذا الحريق, وخرجت منه سليمة لا أثر له في وجهها وجسدها, أن تهب نفسها للدعوة إلى الله, وأن تترك الاتحاد النسائي وأن تؤسس جمعية إسلامية نسائية خالصة, تدعو إلى الله على بصيرة, وتنطلق في أهدافها من القرآن الكريم والسنة المطهرة.

عاشت زينب في هذا " الكفن الأبيض " لحظات صعبة, لكنها كانت واثقة من إكرام الله لها ورحمته بها.. وبالفعل جاء موعد فك الضمادات والشاش الأبيض, ليفاجأ الطبيب بالتئام الحروق وشفائها تماماً, وما كاد ينتهي من رؤية آثار الحروق حتى أغمي عليه وهو يصرخ: " عيسى حي.. عيسى حي.. لقد شفيت تماماً وهذه معجزة! ".

شعرت زينب الغزالي التي كانت قد اقتربت من العشرين ربيعاً, أن الله عز وجل أكرمها كرماً كبيراً وأن القدر يعدها لمهمة كبرى, وأنه آن الأوان لتنفيذ العهد الذي قطعته على نفسها وهي في هذه المحنة, التي خرجت منها أكثر حماسة وأصلب عوداً.. ولم تكد تنهي فترة النقاهة حتى كتبت استقالتها من مجلس إدارة الاتحاد النسائي, بل ومن العضوية أيضاً, وكتبت مسودة اللائحة الداخلية وأهداف جمعية " السيدات المسلمات "..

وفي أول خروج لها بعد الشفاء توجهت إلى مقر الاتحاد النسائي المصري, والتقت بالسيدة هدي هانم شعراوي ـ رئيسة الاتحاد ـ وقدمت لها خطاب الاستقالة.

               


المراجع

odabasham.net

التصانيف

سيرة ذاتية  أدب  تراجم   العلوم الاجتماعية