سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني 25

لقد بقي الداعية الكبير يكتب منافحاً عن الإسلام, وداعياً إلى الله على بصيرة, حتى بلغت منه الشيخوخة مبلغها, ولم يعد قادراً على حمل القلم, واحتفظ سكرتيره الأستاذ إبراهيم شرف بآخر ورقة كتبها في حياته, وسطر عليها: بسم الله الرحمن الرحيم .. لكنها خرجت مهتزة متعرجة, ولم يقو على الاستمرار في الكتابة, وكان يملي مقالاته الأخيرة وهو على فراش الموت لمن يكون حاضراً من الإخوان, وكانت من أقوى مقالاته..وكان بطبيعته يميل إلى الهدوء, فلا تكاد تسمع صوته إلا إذا كنت بجواره, وكان شديد التواضع, لم أره يتقدم لإمامة الصلاة أبداً, حتى ولو كان عدد المصلين قليلاً وليس فيهم أحد من الإخوان القدامى, مع أنه كان الأكثر علماً وفضلاً وورعاً, ولكنه التواضع الجم..وذات مرة هممت بأن أناوله حذاءه بعد الصلاة وكان قريباً مني, فانزعج أشد الانزعاج, قائلاً: "يا أخ بدر: أنا أولى بحذائي منك, وأرجوك لا تفعل ذلك حتى لا تؤذيني", مع أنه كان قد قارب الثمانين من العمر.عاش ـ رحمه الله ـ يحب الدعابة, ويضحك بكل كيانه إذا سمع ما يسره, وقبل أن يموت بساعات رأيته يضحك ـ رغم ألم المرض ـ ويقول لسكرتيره وصفيه إبراهيم شرف: يا إبراهيم.. إذا أنا مت, أوصيك أن تتأكد من خروج الروح تماماً, حتى لا تذهبوا بي إلى القبر, فأصحوا ولا أجد أحداً!.هكذا كانت حياة هذا الداعية الرباني الكبير, وهكذا كانت مسيرته الدعوية والجهادية, وهكذا كانت بصيرته التي فتحت الأبواب أمام جماعة الإخوان إلى الآن, ليس في مصر وحدها, بل في العالم أجمع, ولا أظن أحداً سمع به أو رآه إلا وناله خير منه, وتأثر به وبمواقفه..

وكان أخي وصديقي وزميلي الأستاذ محمد عبد القدوس نجل الأديب الكبير إحسان عبد القدوس وأحد القريبين نفسياً ووجدانياً من الأستاذ عمر, يردد دائماً أنه تعلم منه الدين والدعوة وحسن الصلة بالله أفضل مما لو قرأ ألف كتاب.. تعلم منه الرفق والصدق والأدب العالي والحياء وحسن الفقه في الدين, وبعد وفاته لا يزال الأستاذ محمد عبد القدوس يردد أنه يفتقد الأستاذ عمر التلمساني كثيراً, ويشعر بأنه تعرض بفقده لخسارة فادحة.. وليس هو وحده, بل كل من اقترب من هذا الرجل الكبير.

وفاته رحمه الله

ويوم الأربعاء الثالث عشر من شهر رمضان 1406, الموافق الحادي والعشرين من مايو 1986, أسلم الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام الثالث للإخوان المسلمين الروح إلى بارئها, وانتقل إلى رحمة الله وفضله, بعد حياة حافلة بالعطاء والصبر والجهاد والطاعة والبذل والتضحية, وبعد أن ترك بصمة خالدة في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين, وفي واقع العمل الإسلامي في مصر والعالم, كما ترك فراغاً كبيراً لم يقو الكثيرون على ملئه, رحمه الله رحمة واسعة.وفور سماع النبأ الذي هز القلوب والنفوس, ارتجت الأرض بالدعاء والاحتساب والصبر في كل أنحاء العالم, ويوم الجمعة الخامس عشر من شهر رمضان, الثالث والعشرين من مايو, شيع مئات الآلاف جثمان الرجل العظيم إلى مثواه الأخير في الدنيا, ودفن في مقابر القطامية بحي مدينة نصر بالقاهرة, في مقبره كان قد أعدها الإخوان قبل مدة قليلة, ولحق به صفيه وحبيبه الأستاذ مصطفى مشهور في عام 2002.وكتبت صحيفة "الأحرار" المصرية تقول: "نصف مليون مواطن في وداع عمر التلمساني.. الجنازة استفتاء على وجود الإخوان المسلمين رغم قرار حلها في عام 1954" وفي التفاصيل: "لم تشهد مصر من قبل سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي مثل هذا التجمع التلقائي والعفوي لأكثر من نصف مليون مواطن, 80% منهم من الشباب الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره, بعاطفة جياشة ملأت العيون بالدموع, وألهبت ألسنتهم بالدعاء, في وداع وتشييع جثمان فقيد الإسلام المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ عمر التلمساني..

هذه أول مرة يتاح للإخوان المسلمين ـ كتيار شعبي له كيانه ـ أن يخرجوا لوداع مرشدهم.. كان هذا الحشد الضخم بمثابة الاستفتاء الشعبي على شرعية وجود الجماعة وتماسكها وقوة شكيمتها وملئها لقلوب وعقول الشباب.. وكان أيضاً استفتاءً رسمياً على وجود الجماعة, تمثل في مشاركة مندوب عن الرئيس مبارك ورئيس مجلس الشعب وأمين عام الحزب الوطني ورؤساء أحزاب: الأحرار والعمل والأمة والتجمع ونائب رئيس حزب الوفد وسكرتير عام الحزب والوزراء وكبار المسئولين وسفراء الدول العربية ورؤساء تحرير الصحف.."".. كما شارك رئيس الوزراء الدكتور علي لطفي في العزاء ومندوب عن الكنيسة, وكانت الجنازة أيضاً بمثابة الإعلان عن حقيقة الإخوان وانتشارهم على مستوى العالم لا في مصر وحدها, فقد جاء وفد الإخوان المسلمين في السودان, وفي سوريا وفي الأردن وفي الكويت وفي الإمارات, وكانت الجنازة إعلاناً عن عالمية الجماعة بحضور رؤساء المراكز الإسلامية في: لندن وواشنطن وميونخ ورؤساء الجاليات الإسلامية في عدد كبير من الدول.. وكانت الجنازة بمثابة الرد القاطع والحازم على ادعاءات الإعلام الكاذب وتزييف الحقائق باتهام الشباب بالعنف والإرهاب والفوضى, وأثبتت التزام الشاب المسلم وانضباطه ودقة تقديراته والتزامه بتعليمات كبار رجال الدعوة, وقد حرص الإخوان أن يكون سير الموكب والحفاظ على النظام منهم هم دون تدخل من الأمن..".

 


المراجع

odabasham.net

التصانيف

سيرة ذاتية  أدب  تراجم  شعراء   العلوم الاجتماعية