ودعنا بطل النور مصطفى صونغور أقرب طلاب بديع الزمان سعيد النورسي إليه ومن القائمين بخدمته الى دار البقاء يوم السبت الموافق 1 /12/2012 .ووري التراب في مقبرة السلطان ايوب باستانبول .

ولد عام 1929 في أفلاني– خريج معهد ريفي في گولكوي التابع إلى قسطموني بتركيا.ودخل في خدمة الاستاذ النورسي ورسائل النور وهو في (17) من عمره .

كتب ذكرياته عن استاذه بديع الزمان سعيد النورسي في كتاب الشهود الاواخر (1) :

الترنّم باسمه

(إن التحدث عن الذكريات والخواطر المتعلقة بذلك الأستاذ العظيم، سواءً عن حياته وخدماته الإيمانية والقرآنية وكونه مرآة تعكس تجليات معاني الأسماء والأوصاف الإلهية العليا، أو ما يتعلق بحياته الاجتماعية أو الشخصية؛ على درجة من العلو والسموّ والشفافية والصفاء؛ ليس من حق أو طاقة أمثالي؛ بالخاصة كوني أحد طلبته من الصفوف الأخيرة؛ لكي أقوم برسم صورة كاملة لأوصافه السامية أو حتى الترنم باسمه. لا أقول هذا على سبيل التواضع؛ وإنما أقولها لإدراكي الحقائق التي واجهتُها قلباً وقالباً ووجداناً وروحاً. من الألزم عدم الالتفات إلى حياة أستاذنا سعيد النورسي وإنما إلى شخصيته المعنوية التي تركت بصماتها على أحداث ومجريات العصر وزمانه وأمكنته؛ وكذلك إلى خدماته الإيمانية المستديمة إلى يوم القيامة وما أفرزتها من نتائج ملموسة باهرة وظاهرة للجميع. لقد ورد توضيح كامل وتام لهذه الحقائق في ذيل رسالة (المعجزات الأحمدية) مع الاستعانة بإيراد الأمثلة الموضحة؛ والتي تتجلى للعيان في شخص رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - وبكل جلاء وبهاء. إن كل الذين يسلكون سبيله - صلى الله عليه وسلم - ويهدفون إلى خدمة الدين المبين، ينالون نصيبهم منها كلاً أو جزءاً..

(إن رسولنا الأكرم - صلى الله عليه وسلم -، ومنذ 1400 سنة، ينال حصته من حسنات هذه الأمة باعتبار –أن السبب كالفاعل– هذه الرؤية تتجلى أيضاً في الذين يمضون خلفه ويتبعون سبيله (عليه الصلاة وأفضل السلام).

(إن الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي، سعيدٍ المشهور، المجدد، ترجمان الحقائق في العصر الأخير، معلم الإيمان، الأستاذ الوفي للإسلام.. والحائز على أمثال هذه الأوصاف؛ هذا الإنسان السامي والرفيع المستوى، حقاً يستحق الثناء والتقدير، والنظر إلى تاريخ حياته المفعمة بكل جميل، ولامتلاكه الوجه الصبوح والسيماء المشفقة..

(يكفيه فخراً أنه فردٌ من الأمة المحمدية. هذه الصفة أبرزت عنده النظرة الثاقبة والحدس المسبق واكتشاف أهمية ومكانة اتباع العقل السليم والتوسل بالعلم والفنون والمعرفة عند سلوك طريق الرب الحكيم والتسلح بهذه الوسائل أساساً في نشر دعواه، وذلك في بدايات هذا العصر ومنذ أوائل القرن العشرين مدركاً منذ البداية الأوضاع والظروف التي أوجدها هذا العصر. وهو بهذا، أصبح الراعي والقائد الذي يُدرك ما هو الأفضل والأنسب للمسلمين على مختلف مشاربهم. إن ترديده أقوالاً مثل: (إنني لا أتهم قلوبكم، وإنما أتهم عقولكم...) يأتي في قمة إدراكه ومحاكمته للأمور.

(منذ عام 1950 وما بعدها، عندما دخلتُ في خدمة الأستاذ في (اسبارطة)، كان يقوم بين فترة وأخرى، وربما كل بضعة أشهر، بتلقيننا دروساً لتقويم أخطائنا وشطحاتنا النفسية وضعفنا عندما يدرك ما نحن عليه من حالات التراخي والضعف، جالباً بذلك نظرنا إلى ما نحن عليه. وفي إحدى تلك الدروس قال لنا: (الآن لا يكفي الإخلاص الكبير والمطلق، ولا الصدق الكامل، ولا حتى التضحية التامة. يجب أخذ الحذر التام تجاه هؤلاء الأشخاص الذين هم مثال الشياطين).


العالم يبحث عن الإسلام

(إن جلّ هذه التحذيرات، والدروس الإيمانية والتوصيات في وسائل نشر رسائل النور، إنما هي عناصر في بلوغ النجاح في هذا العصر. وبهذا، يُعتبر بديع الزمان سعيد النورسي، علاّمة هذا العصر والمرشد الأكمل وبطل الإسلام والقائد الفذ. نستطيع أن نقول أمام هذه الحقائق التي ذكرناها آنفاً:-

إن العالَم يبحث عن الإسلام، إن إنسان هذا العصر يفتش عن الأنوار القرآنية. العالمُ كلّه ينتظر سعيد النورسي، لكي يسمع من سعيد النورسي حاجات ومتطلبات القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين وليعرف منه العلاج والجواب. وخلاصة القول: ينتظر منه التشخيص ووصفة العلاج.

يبرزُ الأستاذ هذه المعاني مراتٍ عديدة ويلخصها على النحو الآتي: (إن رسائل النور، دروسٌ للقرآن الكريم حسب مفاهيم هذا العصر).

إن هذه النقاط التي عرضناها باختصار شديد، أي قولنا إن الجيل الجديد وإنسان هذا العصر بل كلّ العالم يبحث عن سعيد النورسي؛ إنما هي لتأكيد حقيقة أن رسائل النور هي تفسير عصري للحقائق القرآنية والإيمانية، تعرض الإسلام حسب مدارك هذا الزمان، أي أن رسائل النور هي ما يبحثون عنه.


إن هذا العصر هو عصر العلوم

نعم، هذه النقطة مهمة للغاية، إن رسائل النور التي تعتبر دروساً لمفاهيم هذا العصر، يجعل أمر نشرها وتوزيعها لتغطي العالم أجمع واجباً مفروضاً يظهر أمامنا. إن التوسل والتشبث بوسائل مختلفة مثل التدريس والمحاضرات والندوات والاجتماعات يعتبر جميعها واجبات إسلامية لتحقيق التلاحم والالتفاف حول الحقائق القرآنية التي تبرزها رسائل النور. إن لتحقيق ذلك وسائل عديدة ومتنوعة. ولكن يبقى الأهم والأبرز من بينها، ما وصّانا به الأستاذ وكررها: (إنني أترك لكم معلماً وأستاذا مستديماً)، الاشتغال برسائل النور وقراءتها وتدريسها بصورة مستديمة. ذلك لأنه قال أيضا: (أية رسالةٍ من الرسائل تقرءونها، هي أفضل بعشر أضعاف من اللقاء بي شخصياً، من جهة الفائدة المستحصلة إضافة إلى كون ذلك بمثابة اللقاء الحقيقي بي...)

وكما أن دروس سعيد النورسي المستنبطة من القرآن الكريم ورسائل النور مظهراٌ نوراني لتعاليم السُنّة النبوية وآل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا العصر، وإلى جانب نواحيها القُدسية، فإن إحدى أوجهها العلمية والمنطقية، إثبات كافة المسائل الدينية وحقائقها استناداً إلى دلائل عقلية ومنطقية في عصر تحكمت فيه هذه الحقائق. توضّح ذلك ما جاء في مقدمة رسالة (المثنوي العربي النوري) على الوجه الآتي: "كان «سعيد القديم» -قبل حوالي خمسين سنة- لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكاً ومدخلاً للوصول إلى حقيقة الحقائق، داخلاً في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة. وكان لا يقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدَها -كأكثر أهل الطريقة- بل جَهَد كلَّ الجهد أولاً لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثَتها إيّاه مداومةُ النظر في كتب الفلاسفة.

ثم أراد -بعد أن تخلّص من هذه الأسقام- أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى أن لكلٍّ من أولئك العظماء خاصيّةً جاذبة خاصة به، فحار في ترجيح بعضهم على بعض. فخطر على قلب ذلك «السعيد القديم» المثخن بالجروح ما في مكتوبات «الإمام الرباني» من أمره له غيباً: «وحِّد القبلة» أي إن الأستاذ الحقيقي إنما هو القرآن ليس إلاّ، وإن توحيد القبلة إنما يكون بأستاذِيَّة القرآن فقط. فشرع بإرشاد من ذلك الأستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسُه الأمارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية.

وخلال سلوكه ذلك المسلكَ ومعاناته في دفع الشكوك، قَطَع المقاماتِ، وطالَع ما فيها، لا كما يفعله أهلُ الاستغراق مع غض الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، مع فتح أبصار القلب والروح والعقل، فسار فيها (أي في المقامات) ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها، منفتحةً من غير غضٍ ولا غمض. فحمداً لله على أن وُفِّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده.

وذكر في رسالة المكتوبات أيضاً: "أنَّ قسماً من أهل الحقيقة يحظون باسم اللّه «الودود» من الأسماء الحسنى، وينظرون إلى واجب الوجود من خلال نوافذ الموجودات بتجليات المرتبة العظمى لذلك الاسم. كذلك أخوكم هذا الذي لا يُعدّ شيئاً يُذكر، وهو لا شيء، قد وُهبَ له وضعٌ يجعله يحظى باسم الله «الرحيم» واسم الله «الحكيم» من الأسماء الحسنى، وذلك في أثناء ما يكون مستخدَماً لخدمة القرآن فحسب، وحينما يكون منادياً لتلك الخزينة العظمى التي لا تنتهي عجائبُها. فجميع «الكلمات» إنما هي جلوات تلك الحظوة. نرجو من الله تعالى أن تكون نائلة لمضمون الآية الكريمة : {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة: 269)".

إن رسائل النور تمثّل دروساً لمفاهيم القرآن الكريم في هذا العصر .

ورغم ذلك، لم يفهمه معظم معاصريه. ولكنهم أصبحوا يفهمونه الآن. هذا الإدراك الآن أصبح يفوق ما كنّا نتصوره أو نأمله وعلى نطاق سطح العالم كله. عندما اجتمع (المؤتمر الطلابي الإسلامي) في أمريكا عام 1970، دار في الاجتماع موضوع: كيف نجد السبيل الأفضل لإفهام الإسلام على النطاق العالمي وللبشرية أجمع، ونقدّم الإسلام كونه الدين الحق الوحيد. وجرت المناقشات بأسلوب السؤال والجواب عليه. تناول الباحثون نماذج واقعية مثل نموذج (المودودي) و (سيد قطب) و (حسن البنا) و (بديع الزمان). ووضعت تحت الدراسة مدرسة بديع الزمان وأسلوبه في كيفية إعادة إحياء الإسلام في تركيا ودوره الكبير في تحقيق ذلك، وكما عبّر الأستاذ بديع الزمان: [إن رسائل النور، مدرسة نورية للقرآن الكريم حسب مفاهيم هذا العصر، فإنّ جميع ذوي النيات الحسنة والجيل القادم لن يغمضوا أعينهم أمام هذه الحقيقة، ولن يقفوا بعيداً عنها. وحتماً سيتخلص العالم المسيحي من الخرافات ويتَّجهون نحو الدين الحق. إن شاء الله.

هذا النور الذي يشتد لمعانُه ويزيد بريقه كلما نفخوا فيه مستهدفين إطفاءه....
إنه نور القرآن والإيمان، ونور فخر الكائنات محمد - صلى الله عليه وسلم - وسيدوم وإلى الأبد ينتشر وينير ظلمة البشرية أجمع ويخرجهم إلى الضياء، إنه النور الإلهي الأزلي والأبدي....


تخرجتُ حديثاً من المعاهد الريفية
لقد حظينا ونِلْنا من ذلك النور الإلهي والقرآني وأدركنا من فيض الحياة المعنوية ابتداءً من عام 1946. كنتُ حديث التخرج من المعهد الريفي في قسطموني، وبدأت حياتي الوظيفية مُعلّماً في قريتي، غير أنني أتذكر الحديث الذي كان يجري أمامي منذ عام 1942 بين طلبة المعهد عن رجل دين وعالم كبير يكتب عن الجنّة وجهنم يعيش في قسطموني.

بعد تخرجي عام 1948، بقيت شهراً في قرية من قرى قسطموني على سبيل التطبيق والتدريب. سمعتُ من المعلم الأقدم (شوكت بك) أثناء الرحلة وهو يتحدث بإسهاب وإعجاب عن حضرة الأستاذ. وهكذا بدأت الرحمة الإلهية بزرع البذور الأولى في نفوسنا. وكان لاخوتي الكبار المحترمين أمثال (احمد فؤاد أفندي ومصطفى عثمان ومحمد فيضي أفندي) التأثير المباشر في المضي على طريق النور. ومرشدون حقيقيون فتحوا أمامي آفاق الانتساب إلى قافلة الرحمة الإلهية. رضي الله عنهم جميعاً.


الرسائل الواردة من الأستاذ

كانت الرسائل الواردة من الأستاذ ومن طلبة النور، تُنشر وتوزع على كافة الأرجاء على شكل ملاحق. كانت مكتوبة بالحروف الجديدة في بادئ الأمر. ثم بدأت تأتي بالحروف القرآنية بعد أن انتشر تعليمه ولله الحمد. استمرت الملاحق بالتوزيع حتى بعد زياراتنا إلى الأستاذ ولحين الدخول إلى سجن (آفيون). وكان يقوم بإرسالها الأخ مصطفى عثمان وتصل إليه من اسبارطة. وبذلك كان شديد الاهتمام بتجهيزنا بالغذاء الروحي وبصورة مستمرة ومستديمة.

كان أملنا الكبير أن نصبح من طلبة النور

رسائل الملاحق هذه، كانت تعلمنا أن "مصانع" فعّالة تعمل في أنحاء الأناضول وتوزع انتاجاتها النورانية إلى الأرجاء. كنّا نفرح وننفتح على هذا العالم الكبير. نتقّبل ما يردنا من حضرة الأستاذ ومن طلبتهِ بدون اعتراض أو تردد. كان أملنا الكبير أن نصبح من طلبة النور. كنّا ندرك أن الانتماء إلى حلقة النور يعني الركوب في سفينة النجاة التي تمثّل الوسيلة إلى إنقاذنا. كنّا نحسُّ وندرك ذلك بأرواحنا. كانت تمنياتنا بسماع كلمة (أنت أيضاً أقبلك طالباً للنور) تتدفق بغزارة من دواخلنا أملاً في الدخول ضمن هذه المجموعة. كنّا ندرك جيداً أن الحديث عن الأستاذ وتذكره هو انعكاسٌ للرحمة الإلهية، ولم نكن نشك في ذلك مطلقاً. وقد أثبت مرور الزمن والحوادث اللاحقة هذه الحقيقة. لقد أينعت وتفتحت السنابل الكثيرة من تلك البذور وأزهرت الحقول، وكما كان يردد الأخ المرحوم محمد فيضي: لقد وجدتُ نفسي في بحرٍ من النور يغمرني، بعدما كنتُ آمل في الوصول إلى نقطة ماء. ويجب أن لا ننسى أبدا الدعوات والرجايا من رب العالمين أن يديم علينا رحمته لأن الحسنات جميعها منه سبحانه وتعالى والفضل راجعٌ إليه.

كنتُ اسمع منذ طفولتي من والدتي وهي تقرأ من كتاب (أنوار العاشقين) أن مجدداً للدين سيظهر ويقاتل الدجّال وينتصر عليه. أدركتُ أننا نعيش في الزمن المقصود ودجّالنا هو الإلحاد والكفر والشيوعية وأن الأنوار القرآنية تقف أمامه مُرشداً وهادياً.


اللقاء بأبطال النور في اسبارطة

سمعتُ في أحد الأيام من الأخ مصطفى عثمان جملةً قرأها أثناء تدريسه في جامع (كوبورلي) في قضاء (صفر انبولي): إن رسائل النور لن تنطفئ ولا يمكن إطفاؤها. سألتُ في عالم معنوي عن علم الإمام علي (رضي الله عنه). وكذلك استمعت إلى رسالة الأخ (حسن فهمي) التي تبتدئ بجملة "يا رسالة النور!" وبدأ في دواخل نفسي إحساس أن الشخص المنتظر هو حضرة الأستاذ بذاته. وفي نفس السنة قمتُ بزيارة الأستاذ في (اميرداغ)، ثم ذهبتُ إلى (اسبارطة). كنتُ أهدف إلى اللقاء بأبطال النور أمثال الأخ (خسرو) وغيره. شاهدتُ الأخ (طاهري) في دار الأخ (خسرو). سمعت الأخ (خسرو) يقول :(يا أخ صونغور... لقد جاء الشخص الذي ينتظره أهل الإيمان منذ 1400 سنة.)، وهذا مما زاد من يقيني. وخلاصة القول أن الأعوام 1946-1947 كانت سنوات لقائي مع رسائل النور ومعرفتي بالحركة التي شملتْ أنحاء البلاد كافة بدعوة الإيمان، واعتبرتُ قبولي في زمرة طلبة النور أسمى ما يتحقق من أماني وأحلامي، والتي كانت خاتمتها زيارة الأستاذ عام 1947 في (اميرداغ).... وسأقوم بعد الآن بعرض نُبذٍ من خواطري وبشكل مشتت وليس بصورة منظمة ومتلاحقة.


في تركيا أستاذ باسم بديع الزمان

ابتداءً من عام 1946، وعلى اثر نشر مجموعات رسائل النور مطبوعة بالحروف الجديدة، بدأ التوجّه نحو عموم الناس وبهدف إبداء الخدمة والدعوة.... لا أستطيع التعبير عن مدى السعادة الغامرة التي كنتُ أتحسسها لدى رؤيتي وقراءتي تلك الرسائل. بدأت نداءات مثل: (في تركيا أستاذ باسم بديع الزمان، وله مؤلفات تحت اسم (رسائل النور)، إن في قراءتها وكتابتها أجراً كبيراً وخدمة جليلة لمعاني الدين..) كانت تشجّع الطلبة وتشدُّ من أزرهم، ولكن معناها الحقيقي يدركه فقط أولئك الذين كانوا يعملون بها، ويدركها مَنْ يقوم بكتابتها أو قراءتها. لقد تحمل الذين كانوا يعملون في طبع هذه الرسائل ونشرها وتدريسها، وأبدوا تضحيات كبيرة.

إن الذين لم يستطيعوا فهم هذه التضحيات وإدراكها ولم يعرفوها أو يعيشوها، بدءوا في البحث عن منافع دنيوية ومادّية وغايات شخصية بين كوادر طلبة النور. لم يقبلوا أن يدركوا أن وراء كل هذه التضحيات من كوادر النور وعلى رأسهم شخص الأستاذ أشياء وغاياتٌ سامية وعُلوية هي فوق مستوى المنافع الدنيوية بمراحل كبيرة. ولكن الشيء الأكيد هو أننا كنّا ننالُ أجورنا من النواحي المعنوية. كأننا نعيش في عالم من النور بأرواحنا وقلوبنا. يمكن أن يقال أن الرحمة الإلهية ظهرت في الخدمة القرآنية في العصر الأخير، وأفرزت الكثير من اللذّة الروحية والأحاسيس الطيبة، بحيث كانت تقابل وتعادل جميع الآلام والضيق. قرأنا يوماً في اميرداغ، وبمشاركة الأخ (زبير) والأخ (ضياء) رسالة (الآية الحسبية) من (الشعاع الرابع)، وأدركنا حالة من الأحاسيس والمشاعر المعنوية. ثم جاءنا الأستاذ وأعاد علينا قراءتها وقال: (إنني أبتغي من قراءتها اختيار نواحي المشقة وليس التماس الناحية الذوقية. ولكنني أسمح لكم بها. لأنها الوسيلة إلى زيادة الشوق والرغبة لديكم.).

ولابدّ لي الإشارة هنا، أن الأستاذ كان يعيش ثلاثة أيام متوالية من المرض والآلام مقابل يومٍ يشعر فيه بالراحة والعافية. لقد نبّهني مرات عديدة: (أنت يا صونغور، اعلم أنني أشكو من عشرة أمراض. لو كان أحدها عندك، لبقيتَ طريح الفراش.). إن صبره وتجلُّدَه إذن بسبب إدراكه للأجر العظيم الذي يقابل ذلك. كان كثيراً ما يظهر أنه يعيش لأجلنا. حتى إنه كان يتلذذ عندما يرانا نشبع في تناول طعامنا. لقد تحدث مرات عديدة بهذا المعنى وكان يعطينا قسماً من طعامهِ. كأنما يعبّرُ عن تلذذهِ من إشباعنا. كان يبدي نحونا الكثير من الرعاية والعناية أثناء أداء الخدمة ويُشيع لدينا المشاعر الروحية السامية. لقد أدركت أن ما يظهر علينا من الشوق في إبداء الرغبة في إجراء الخدمة ونشر مفاهيمنا بين الشباب والمتعلمين إنما ينبع من مظاهر الخدمة الجديدة التي تجلّتْ على الأستاذ في السنوات العشر الأخيرة ودخوله في مرحلة جديدة، ومظهر للإعلام والنشر الشامل.

إنني على قناعة، أنه كان يدرك الفائدة التي يجنيها الجيل والنشء الجديد وفي عموم أرجاء البلاد، ويظهر نحونا الرعاية بسببهم.


اعرف العلاج لمرضي، ولكن....

وبخصوص وضعه الصحي، قال للأخ زبير – الذي نقل حديثه لنا-: (إنني أعرف الآيات القرآنية التي تُعتبر علاجاً لأمراضي. ولكنني امتنع عن استعمالها. ولما كان المرض شيئاً عارضاً، فهناك الأجر والحسنات التي يمكن نيلها.). كان معظم وأكثر معاناته من أجل رسائل النور. كان يفرح أو يحزن أو يفكّر في دائرة النور بعدما تأسست ونشأت. ذلك لأن دائرة النور بمثابة الوجود المعنوي لكيان الأستاذ. كان يتحمل المتاعب التي تواجه حركة النور أو المعوقات التي تظهر نتيجة الأخطاء التي يرتكبها بعض الطلبة وتكون نتيجتها تلقي الصفعات والمحن، وهو بذلك يديم الشوق والاندفاع والاستمرار بأداء الخدمة بين طلابه، ويشحنهم بالرغبة والحب.

الملاحق والمضحون من أجل النور

مع ورود الملاحق خلال السنوات 1946-1947، تعرّفنا على الكوادر العاملة الأساسية في حركة النور. كنّا نعرفهم بأسمائهم طبعاً. كان الحديث يدور حول مراكز مثل مدن (قسطموني واسبارطة وإينَبولي ودنيزلي واسطنبول وميلاس). كما يجري الحديث عن (خلوصي بك) و (سنترال صبري) و (أبطال بارلا) وأماكن مثل (اكيردر وقونيا). غير أن مركز الإشعاع الذي غطى الأرجاء بنوره كانت (اسبارطة) وحواليها.

كان الأستاذ يتحدث ويذكر عن (أبطال المدرسة النورية) أمثال طلبة النور في (ساو) والهيئة المباركة التي سماهم من (قوله أوني) و (رئيس وهيئة معامل الورد) و (إسلام كوي) و (حافظ علي) و (طاهري)، ثم (اسبارطة) والأخوة (خسرو) وأصدقائه (رأفت) و (محمد الخياط) و (محمد تنكَجي) و (كاتب عثمان) و (نوري بنلي) و (خليل إبراهيم) وأمثالهم من الطلبة. وكان اسم (خليل إبراهيم من ميلاس) يتردد أيضاً. واعتباراً من عام 1946 وإلى نهايات عام 1947، توالت الملاحق وتتابعت يوماً بعد آخر، وظهرت مراكز جديدة وطلابٌ جدد للنور.


اكتب أسماء طلبة النور في (أفلاني)..

زار كافة طلبة النور في (أفلاني) الأستاذ بمرور الزمن. وقد قبلهم الأستاذ ضمن طلبة النور. وبعدما تشرفتُ بالتفرغ لخدمته، قال لي يوماً: (اكتب أسماء طلبة النور في (أفلاني) على ورقة، وسأقوم بالدعاء لهم بذكر أسماءهم رغم أنني أقوم بالدعاء لجميع أهالي (أفلاني)، حيّهم وميّتهم. ولكنني سأدعو لطلبة (أفلاني) بذكر أسمائهم.). كتبتُ الأسماء، وقام بتثبيت الورقة على الحائط خلفه. وقد طلب مني كتابة الأسماء على شكل دائرة. كنتُ أسمع كثيراً يردّد أسماء أماكن مثل (نورس) و (بارلا) و (اميرداغ) وأخيراً اسم (أفلاني) وإلى يوم وفاته. ولله الحمد والشكر.

إن أسماء طلبة النور في (أفلاني) هي كالآتي: في المقدمة أستاذنا (أحمد فؤاد)، و (حسن فيضي) من (صفرانبولي)، الذي عدّه وقبلَه الأستاذ باعتباره (الحافظ علي) الثاني، وذكره وثبّته في الملاحق. ثم (الخطيب إبراهيم، وإبراهيم خوجة وخالي الخطيب والحاج رشاد وولده محمد ومصطفى ومولود، ثم شوكت وحسني وشكري والذين وردت أسماؤهم في الملحق، رحمي وأمين أفندي وكتان أحمد أفندي ونيازي أفندي*. وغيرهم كثيرون نالوا حظوة اللقاء بالأستاذ في اسطنبول وبركة دعواته. واستمروا على العهد بصدقٍ وإخلاص إلى آخر حياتهم. استمروا بترديد الأوراد والأذكار وخدمة رسائل النور بكتابتها. اذكر خاصة الأستاذ المبارك (كامل خوجة) الذي قام بعد عام 1960 باستنساخ وكتابة المجموعة الكاملة لرسائل النور وبكل شوق واندفاع. كما وأنشأوا أجيالاً جديدة من خلفِهم الذين نشأوا وترعرعوا على حب الرسائل وقاموا بأداء خدمات جليلة لها في (اسطنبول) و (قرَبوك). إن الحديث عن الخدمات النورية في (صفرانبولي) وما حواليها يحتاج إلى بحث خاص ومستقل وطويل.


زيارتي الأولى عام 1947م

تحققت زيارتي الأولى إلى استاذي المبارك في أيلول عام 1947 في (اميرداغ). أخذت معي رسالة (عصا موسى) التي استنسخها (أمين أفندي) من (أفلاني). لم تكن أية طرق مواصلات مباشرةً بين (أنقرة) و (قرَبوك) في تلك الأيام. السفر كان عن طريق سكة الحديد. نقطع الطريق من (أفلاني) إلى (صفرانبولي) على ظهر الدواب في سبع ساعات، ومنها إلى (قرة بوك) بسيارات الحمل الصغيرة. ويقطع بنا القطار المسافة من (قرة بوك) إلى (أنقرة) في ليلة كاملة، حيث نصل أنقرة قرب الظهيرة، أي أكثر من (12) ساعة. ثم نأخذ القطار إلى اسكي شهر ونمضي ليلتنا في فندق (يلدز) وفي الصباح نتوجه بسيارات الحافلة (الباص) ونصل (اميرداغ) بعد ثلاث ساعات. وحتى نصل إلى اميرداغ، كانت العواطف تأخذنا، وتبلغ الانفعالات ذروتها. لم تكن لرغبتنا في الوصول إلى الأستاذ واللقاء معه أية حدود.

نعم. كان هناك أحدهم يقيم هناك في اميرداغ. كنّا نرتبط بوجوده بجميع كياناتنا. كأنّه يشكل كلّ وجودنا وجميع ما نملك. إن الشفقة والرحمة التي وجدناها عنده، كانت تربطنا به بوثاق. نهرع إليه مثل أبٍ مشفق رحيم. إن دموعي تسيل كلما أتذكر تلك اللحظات العاطفية عندما اقترب من بلدة اميرداغ، وتتراءى من بعيد ومن خلف التلال أول بيوتاتها، ومن ثم وصولي إلى محلات الأخوة عائلة (جالشقان) والتقائي به وإلقاء نفسي بين أحضان شفقته وحنانه. لا أشكُّ مطلقاً أن جميع الذين نالوا من نورهِ ونهلوا منه مصدر حياتهم تغرورق أعينهم بالدموع مثلي..ذلك لأن الدقائق والساعات والأيام التي أمضيتها في حضوره كانت صفحات من نور... كانت بمثابة انعكاس للحضور المحمدي - صلى الله عليه وسلم -. إن تلك الساعات والدقائق ينطبق عليها القول المأثور: (دقيقةٌ مع وجود "نور" ترجّحُ على مليون عامٍ مع وجود "مبتور".). لقد وجدناه مثل تمثالٍ من الرأفة والرحمة، وتجسيمٌ للشفقة. تلك هي من فضائل ربنا وخالقنا علينا... إنه النور الذي قلب ليلنا نهاراً، كالشمس التي تشع نوراً... " أيتها النظرات المشفقة!، أيتها العيون التي تبثُ الحياة، أيتها الروح التي أخذت من نور القرآن سلطانها ووزعتها على الملأ في أرجاء المعمورة! إنك تعيش مع رسائل النور وعلومك ومعارفك وإرشاداتك التي جعلتك خالداً أبداً، مع تلك النظرات المشفقة ونفس الرؤية النورانية، وستبقى حيّاً أبداً وتدوم أبداً. وآلافٌ مؤلفة أمثال (صونغور) وملايين مثل (سعيد) تأخذ منك أنوار حياتهم وآمالهم... يدعون لك وهم خدّامُ دعواك. وكما تفضلتَ وقلتَ، فإن حياتك تدوم مع أولئك ومع مئات الألوف أمثالهم. وسوف تدوم إلى يوم القيامة إن شاء الله.


ذكريات لا تنسى بعد عام 1954

إن السنوات التي قضيناها في رفقة أستاذنا في المراحل الأخيرة من حياته مع الاخوة (زبير) و (جيلان) و (طاهري) و (بيرام). تضمّ ذكريات جميلة لا تُنسى. ذكريات عزيزة مقرونة بلحظات وأوقاتٍ غنيّةٍ بدروسه وإرشاداته ونصائحه ولُطفه وحتى صفعاته. لا أقدر على الإفصاح والتعبير عنها الآن. لقد نلتُ شرف الالتحاق بهذه الزمرة المباركة بعد خروجي من سجن (صامسون) واستقراري في (اسبارطة). لقد قبلنا الأستاذ الفاضل في رفقته والالتحاق بخدمته.

وفي الدار المؤجرة من السيدة الفاضلة (فطنت هانم)، وفي الطابق العلوي حيث اتخذ بمثابة مدرسة النور، أقمنا وضمن دائرة نورانية مقدسة كانت بمثابة ليلة القدر في حياتنا وباشرنا بالدراسة والتدريس. وفي عام 1956 التحق بنا الأخ (حسني) القادم من الخدمة العسكرية من (اورفا) ودخل ضمن زمرتنا نحن القائمين بخدمة الأستاذ إلى آخر رمقٍ من حياته.

ولكن... كيف يتسنى لنا أداء خدمته بالشكل الذي يليق به؟. كان يعيش ساعات أيامه بلياليها حياةً نشطة مفعمة بالحكمة وألوان العبودية وبكل ما تمثله الفعالية والنشاط بجميع معانيها وصورها. كنا أحياناً نحافظ على الرعاية والدقة والكمال في أداء خدماته، ولكننا في أحيان أخرى لم نكن نبلغ الدرجة المطلوبة أو نحافظ على نفس المستوى من الأداء المطلوب. ولهذا كان يتفضل ويذكر لنا: (إنني لا أقدر على الاكتفاء بأحدكم مع وجودكم مع البعض في بعض الأوقات).

يقرأ الرسائل الواردة، ويدّرسها لنا

عندما كان الأستاذ يسافر من اميرداغ إلى اسبارطة، مثلاً، لم يكن يجلس دون أن يعمل شيئاً، كان يقرأ أو يدقق ويتأمل في ما يراه خارج السيارة أو يستغرق في التأمل والتفكير... وعندما نصل إلى المسكن، كان يبادر وبنشاط ظاهر إلى ترتيب الأمور وإشعال النار في المدفأة ويفتح الرسائل الواردة ويقرؤها ويجمعنا ويقوم بتدريسنا مجتمعين. يظهر حالةً من الحيوية والحركة بدلاً من بوادر التعب والإرهاق، رغم أنه تجاوز الثمانين من عمره....

إنها حقاً حالة تجلب النظر والانتباه! أما نحن، فقد كان التعب يظهر علينا غالباً. وقبل هذا التاريخ، وبعد أن أمضى عشرين شهراً في سجن (آفيون) عام 1949 وأطلق سراحه في 20 أيلول من ذلك العام، شرَّفَ واستقر في الدار التي أجرها الأخ المرحوم زبير في (آفيون) مدة شهرين ثم انتقلا إلى (اميرداغ). كانت تلك المرة الأولى التي مكثتُ فيها مع الأستاذ. جئتُ إلى (آفيون) صحبة السيد الصائغ صبري أفندي من (صفرانبولي) وذلك يوم 7/أيلول/1949. وكان الأخ زبير يقيم مع الأخ (ضياء) في دار مؤجرة هناك.

لم ينقطع الأخ زبير عن القيام بخدمة الأستاذ حتى بعد إطلاق سراحه وإنما استمر في خدمته من الخارج. وقد أفاد الأستاذ ووصف خدمة الأخ زبير بالمقبولة والحسنة، وكما يلي:

كان أستاذنا يقوم بتدريس إحدى رسائل النور وفيها: (من الدليل على أن الأشياء للبقاء لا للفناء، بل الفناء الصوري تمام الوظيفة وترخيص له، أن الفاني يفنى بوجهٍ ويبقى بوجوهٍ غير محصورة!) و(إن الدنيا لها وجوه ثلاثة:

وجه: ينظر إلى أسماء الله.

ووجه: هو مزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حَسنان. ويثمران الباقي وينتجانه، ويحوّلان الأشياء الفانية إلى حكم الباقية)

والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الاسمي، مدار للهوسات الإنسانية ومطالبِ الحياة الفانية.)

ثم بعد ذلك التفت إلى الأخ زبير، (إن الصور التي أبرزها "زبير" بعد خروجه من سجن آفيون وبقائه هناك واستمراره في خدمتي، هي حلوةٌ وجميلة جداً).

"في يوم 19 أيلول 1949، وبمشاركة الأخ (ضياء نور) وأحد أصدقائه اللذين وصلا من قونيا، قمنا بنقل حاجيات الأستاذ وذلك قبل يوم واحد من موعد إطلاق سراحه. لقد أمضينا يوماً حافلاً في (آفيون). ذلك لأن أستاذنا سيخرج من السجن غداً. لقد نقضت محكمة التمييز قرار محكمة (آفيون) القاضي بالحبس ومصادرة الممتلكات. وقبله بأربع سنوات وفي (دنيزلي) عام 1944 أُبرأت ساحة الأستاذ (سعيد النورسي) ومجموعة من طلبته ومجموعة رسائل النور، وصادقت محكمة التمييز على القرار، وأُعيدت كميات كبيرة من رسائل النور المصادَرة إلى أصحابها.

إن محكمة التمييز تشير إلى ذلك القرار. (هل هناك مؤلفات أو كتب جديدة عدا التي بُرأت ساحتها في محكمة دنيزلي، وفي حالة وجودها بإمكان محكمة دنيزلي الحكم بشأنها، أما التي سبق وأن بُرأت ساحتها فليس من صلاحيتها اتخاذ قرار جديد بشأنها). ورغم هذا، بقي الأستاذ سعيد النورسي ومكث في السجن عشرين شهراً، ثم أُطلق سراحه فجر يوم 20 أيلول، وجاء إلى مسكنه برفقة الأخوين (زبير) و (ضياء) كنّا قد أنهينا صلاة الفجر ومنهمكون في ترديد الأذكار والتسبيحات. سمعنا صوت عربة وطرقات أرجل الحصان على الأرض. قمتُ ونظرت من خلال الشباك. رأيت عربة متوجهة نحو المسكن. صحتُ: (لقد جاء الأستاذ)!. نزلنا إلى الأسفل واستقبلنا العربة على بعد خمسين متراً. نزل الأستاذ من العربة، ومن خلفه رجال الشرطة. هرعنا إلى تقبيل يد الأستاذ.


هؤلاء هم مدار افتخار الشعب التركي

توجّه الأستاذ مخاطباً الشرطة: (إن هؤلاء هم مدار افتخار الشعب التركي)، ومشيراً إلينا يُعرِّفنا. إن الغرض من نقلي هذه الواقعة، لكي أبين أن الأستاذ كان يُعلن على الملأ جميع الخطوات والخدمات الإيجابية التي يقوم بها طلبة النور أمام العموم. كان يحاول تصحيح أفكار ووجهات النظر الراسخة لدى الشرطة من أثر الدعايات المغرضة التي كانت تُبثُّ في تلك الأيام. وربما يتكلم خلاف ما كانوا يدعونه، حينما كانوا يزورون المحلات والدكاكين في كافة أرجاء مدينة (آفيون) ويبثّون أفكارهم ضد طلبة النور.

مكثتُ معهم في ذلك المسكن مدة عشرة أيام. في 30 أيلول، أُعيدت المحاكمة في (آفيون) ثانيةً بعد نقض قرار محكمة التمييز. وخلال الأيام العشرة تلك، كان رجل شرطة يحرس الباب باستمرار، ويمنع الزوار. لم يزره من (آفيون) سوى الأخ (احمد خانجي اوغلو). وقبله الأستاذ نيابةً عن أهالي (آفيون). كانوا قد بعثوا أحد رجال الشرطة الحمقى ليحرس عند الباب كل يوم. حاول الأستاذ مراراً إلقاء الدروس عليه وإفهامه عن هدف رسائل النور التي هي خدمة البلاد والعباد. لم يكن يدعو على أي أحد من أهل الدنيا وإنما يحذّرهم. لقد أصبحت شاهداً على حالة الأستاذ هذه ربما ألف مرة. حتى إنه بعد إخلاء سبيله وجلبه برفقة بعض من رجال الشرطة، أجلسهم على الأرض وبدأ يقرأ عليهم من (الشكوى لدى المحكمة الكبرى). هذه (الشكوى) كتبها قبل خمسة عشر يوماً من إطلاق سراحه وفي داخل سجن (آفيون)، وأرسلها إلى الأخ (زبير). قُمنا بطبعها على آلة الطابعة مع الأخ زبير، وأرسلناها إلى سِتَّة جهات عليا، تنفيذاً لأوامر الأستاذ. طلب إرسالها إلى الجهات التالية: (مجلس الوزراء ووزارة العدل ومحكمة التمييز ورئيس الوزراء ورئاسة الحزب الديمقراطي والمارشال فوزي جاقماق). يقول فيها:-

لقد أوقفتُ حياتي لإنقاذ إيمان الأمُة

[هذه عريضة إلى محكمة الحشر الكبرى، وشكوى إلى المقام الإلهي، ولتسمعها محكمة التمييز في الوقت الحالي والأجيال الآتية في المستقبل وليسمعها أساتذة دار الفنون (الجامعة) وطلابها المثقفون، فمن مئات المصائب والبلايا التي واجهتها طوال ثلاث وعشرين سنة اخترت عشراً منها لعرضها على عدالة المقام الإلهي ذي الجلال الحاكم المطلق مشتكيا إليه:

الأولى: مع أنني شخص مقصر، فقد نذرت كل حياتي في سبيل سعادة هذه الأمة وفي سبيل إنقاذ إيمانها، ولقد سعيت بكل جهدي للعمل برسائل النور لكي أضحى بنفسي في سبيل حقيقة أفتدتها ألوف الأنفس، وهي الحقيقة القرآنية واستطعت بتوفيق من الله تعالى وفضل منه أن أتحمل شتى ضروب التعذيب، فلم اتقهقر ولم أنسحب.]( النورسي،الشعاعات، الشعاع الرابع عشر). كانت الرسالة تبدأ هكذا..

كنّا نقيم الصلوات الخمس هناك في (آفيون)، جماعةً خلف الأستاذ. كان الأستاذ يستفيق من النوم في ساعة متقدمة من الليل، ويتعبد ويقرأ ويتهجد إلى حين اقتراب وقت صلاة الفجر، حيث يوقظنا من النوم لأداء الصلاة. قال الأخ زبير يوماً: (لنتناوب ونسهر لكي يقوم أحدنا بإعداد الماء للأستاذ ليتوضأ...). وهذا ما طبقناه فعلاً. سهر الأخ زبير في الليلة الأولى. وفي الليلة الثانية قمتُ أنا بسكب الماء ليتوضأ الأستاذ. لم يتكلم الأستاذ أبدا. ودخل غرفته وأخذ بقراءة الجهر حتى الصباح. كان ينهض بأربع ساعات تقريباً قبل أذان الفجر. استمر الوضع على هذا المنوال مرتين متتاليتين، ثم منعنا الأستاذ. وقال: (منذ خمس وثلاثين سنة وأنا أعيش وحيداً، ولم يحصل أن قام أحد بخدمتي ليلاً.). بعد تلك الفترة، كان الأستاذ يستفيق لوحدهِ يقرأ الأوراد والأدعية المأثورة، ويقرأ مدة خمس عشرة دقيقة رسائل النور ثم ينهض إلى الصلاة. وعلى ذكر البحث الذي كتبه إلهاما من مقدمة (اللمعة التاسعة والعشرين) والآيات التي تحثُّ على التفكّر:" منذ عشرين عاماً، كلما تملّكني الضيق وأصاب الفكر والقلب إرهاق، ولجأتُ إلى قراءة قسم من ذلك الحزب بتأمل، إلاّ وكان يزيل ذلك الضيق والسآمة والإرهاق. حتى -بلا استثناء- قد تكرر ألف مرة أن لم يبق أي أثر للملل والتعب الناتجين عن المشغولية لأربع أو خمس ساعات بقراءة سدس ذلك الحزب قريب الفجر. نعم إن هذه الحال تدوم حتى الآن"

ينقل عن الأخ زبير، أن الأستاذ قال له: (لقد جاهدت نفسي عشرين عاماً من أجل العبادة الليلية، ثم لم تبق حاجة إلى ذلك).

نعم، إن أستاذنا العزيز، إلى جانب انشغاله في تأليف رسائل النور ونشرها واستقبال الزوار وتوديعهم وأحاديثه ودروسه التي يلقيها على الحاضرين، واتصاله بالإداريين والسياسيين وأهل المعرفة والتربية ولفت انتباههم وإلقاء الدروس عليهم، فإننا لا نقدر على وصف حالته وأوضاعه التي صرف ثمانين عاماً في إدراك الطمأنينة والسكينة من خلال الارتقاء بالإيمان ومعرفة الله تعالى وحتى بلوغ درجة الحق اليقين. لقد أدام وحافظ على التعبد كل ليلة ولوحده. وقد أفادنا أيضاً وذكر لنا هذه الحقائق السيد (ملاّ حميد) الذي كان يقوم بخدمته في (وان).


لقد كان خشوع الأستاذ في صلاته وسكونه شيء آخر...

لقد كان وضع الأستاذ في صلاته، والطمأنينة والسكون والخشوع الظاهر عليه شيءٌ خاص. لا نستطيع التعبير عنه. إن إدراكنا لمظاهر انغماره اللانهائي في الصلاة، لن يتجاوز نسبته واحداً من المليار. نعم هذا شيء مؤكد... وقوفه على الصلاة، وتكبيرتُه الأولى، وضمُّ يديه، ودعاءه بتذلل لرب العالمين، قراءته سورة الفاتحة، كلمةً فكلمة، وجملة بعد أخرى وبشكل معبّرٌ عن محتوياتها، وطريقة رفعها وتقديمها إلى أعلى العليين من السمو والعلو، لن يكون بإمكان أمثالنا التعبير عنه، ولا نقدر بأي حال عن وصف لفظهِ كلمات التشهد وقراءة: (التحيات...) وكيفية رفعها إلى المقام الرباني. وقد جاء في الكثير من الرسائل وبالخاصة في مبحث (العلم الإلهي) من رسالة (الشعاع الخامس عشر) توضيح كثير عنها. إن قراءتها حتماً ستكون سبباً للطمأنينة. كما وردت إيضاحات في رسالة (مفتاح عالم النور). يُفهم من هذه المؤلفات ومن أوضاعه وتصرفاته وحركاته، أنه يمثل قطعاً مظهراً للتجليات الإلهية. إن الأوضاع والحالات التي تظهر على بعضٍ من طلبته المتقدمين إنما تشكل وتمثل جزءاً بسيطاً قياساً به. كان يملك شخصية تتشخص فيها مظاهر العبودية والخشوع والقدسية، والتأمل والذكر والتفكر، إلى جانب ما يشع منه على العالم الخارجي من شخصية عظيمة، ترشد الناس وتنقذهم وتصف لهم وصفات العلاج.
نستطيع القول إنَّ (سعيد النورسي)، ومن خلال استدامة آثار مؤلفاته النورانية واستمرار الحياة في نشرها في أنحاء المعمورة وتوسّع قواعد المنتسبين إلى جماعة النور وتنوّع خدماتهم المقدّمة، فإنه يرتفع في المقام يوماً بعد آخر ويرتقى إلى المستويات العلوية، وفق قاعدة (السببُ كالفاعل). وأنه يطير بآلاف الأجنحة نحو الرحمة الإلهية اللانهائية، وسيتابع إلى يوم قيام الساعة، إلى بلوغ أقصى الغايات، وذلك فضلٌ من الله.

قال يوماً أثناء تدريسه لنا: (عندما يقف الإنسان في الصلاة، وأثناء قراءته للتشهد، وعندما يقول "التحيات لله..." يستطيع رفع وتقديم جميع التحيات والتسبيحات لجميع المخلوقات التي تقول التحيات في نفس الوقت من الصلاة في نفس اليوم).


كانت أوقات قراءة الأدعية مهمة جداً لأستاذنا

وأيضاً في (آفيون)، وحول موضوع الأدعية والأوراد بعد الصلوات:- "عند قراءة (سبحان الله والحمد لله والله أكبر)، فإن المؤمن الذي يذكر ذلك بقلب خاشع مُدرك (يدخل في زمرة الجماعة المؤمنة والملايين الذين يؤدون صلواتهم في نفس الوقت، ويردَّدوها معهم، بل وحتى إنه يشارك جميع المؤمنين في الزمان نفسه، ويسبح ويهلل معهم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قائم في وسطهم، وعن يمينه الأنبياء والرسل، وإلى يساره جميع الأولياء والمؤمنون..). كما قال يوماً: (عندما أنهي الصلاة وأردد عبارة "السلام عليكم ورحمه الله ..."، إنما أسلُّمُ وفي نيّتي أن الأنبياء في يميني، والأولياء في جنبي الأيسر، وألقي عليهم بالتحية).

كان أستاذنا يقول دائماً: (إن حياتي مضت بانتظام)، أجل، إن حياته كانت تجري ضمن نظام دقيق يغطي كل 24 ساعة من يومه. كان دائماً يحافظ على تسبيحاته وأذكاره الليلية وصلوات التهجد، وينتظر الأسحار وهو منهمكٌ في قراءة الأوراد والذكر. وكان أوقات قراءة الأدعية مهمة جداً له، وكانت له ساعةً من الزمن وكأنه يتهجد مع كل ذرات هذا الكون، أما حياته في النهار، فكانت تجري بانتظام بين الحاجات الإنسانية والقراءة والتصحيح واستقبال الزوار والتدريس.


التقى مع علماء وأولياء شرقي الأناضول

هذا الإنسان السامي، برز من الشرق مع كل قابلياته ومزاياه. تلقى دروسه وعلومه من رجالات الدين المعروفين والعلماء والزهاد أمثال (الشيخ صبغة الله) و (احمد خاني) و (عبدالرحمن تاغي)، وتزوّد منهم ونال بركاتهم وهِمَمهم العالية، وحظي ببركات وفضائل الشيخ الكيلاني وأئمة آل البيت الأطهار وتلقى إرشاداتهم، وابتداءً من أيام شبابه تكامل مع مناجاته المستمرة وقراءة (الجوشن الكبير)، وهكذا ارتقى في المراتب تدريجياً بفضل بركاتهم حتى تكامل وبلغ ما بلغ.

وذكر في إحدى رسائلهِ، السرَّ في اتخاذه (الإمام الرباني) (والشيخ الكيلاني) و (الإمام الغزالي) و (الإمام زين العابدين) (رضوان الله عليهم جميعاً) أساتذة ومرشدين له مع الاحتفاظ (بالجوشن الكبير) في مناجاته وأوراده: (لقد قضيت ثلاثين سنة أتلقى دروسي من الإمام الحسين والإمام علي (رضي الله عنه) ومن خلال (الجوشن الكبير) وحافظت على الرابطة والوثاق المعنوي معهم، وتجلت عندي هذه الخصال التي برزت في نمط حياتي السابقة، وفي الوقت الحاضر في رسائل النور). عندما كان في (وان) استمر بصورة منتظمة على قراءة (مجموعة الأحزاب للكموشخانوي)، بمجلّداته الثلاثة مكرراً ذلك في كل خمسة عشر يوماً.


كنّا نؤدي صلاة الظهر...

سمعت أصوات الأولاد الذين كانوا يلعبون ويتصايحون في الزقاق عندما كنّا نؤدي صلاة الظهر بعد الخروج من سجن (آفيون). فكرت مع نفسي: (تُرى هل تؤثر هذه الجلبة والضجيج على السكينة والطمأنينة المتجلية في صلاة الأستاذ؟). وسبق لي وأن شاهدتُه يصلي مع الصوت العالي المنبعث من اشتعال الموقد النفطي الذي كان يشعله الأخ (خسرو) في (اسبارطة). قائلاً: (إن أصوات الأولاد تؤثر عليَّ ولهذا أشعلتُ الموقد للتغطية على أصواتهم). وبعد أن أنجز صلاته، وقبل أن أسأله، بادر يقول: (كانت الأصوات الصادرة من الشارع تؤثر على صلاتي والآن لم تعُدْ تؤثر...).


إذن، أنت والد صونغور

عندما كنّا نمضي أياماً في سعادة مع العيش برفقة الأستاذ في (آفيون)، جاءنا والدي-الذي كان إماماً لمسجد إحدى قرى آيدن- بقصد الزيارة. خاطبه الأستاذ (إذن، أنت والد صونغور.) وأبدى له اللطف والتكريم وحُسن المعاملة. كان والدي في ضائقة مالية، وبدوري لم أكن أستطيع معاونته من راتبي الوظيفي، وهذا مما أدى إلى عدم شعوره بالراحة وكان في ضيق وشدّة. جاء ليشكوني للأستاذ، الذي قام بإلقاء دروس إيمانية متحدثاً عن الخدمات النورية، ثم تكلم عن حقوق الوالدين.

أصبح والدي بعد هذه الزيارة من أنصار النور، وأخذ بذكر فضائل الأستاذ ورسائل النور في (ايدين وازمير) وما حولهما. حتى أصبح ناشراً للنور في تلك الأرجاء. وفي السنوات الأخيرة من حياة الأستاذ، أرسل والدا الأخ (حسني) رسالة إلى الأستاذ، يذكران فيها (لقد وهبنا حُسني إلى الأستاذ). وعندما قرأها الأستاذ، التفت إليّ قائلاً: (يجب على والدك أيضاً أن يهبك لي). وأضاف (وفي الحقيقة، إن والدتك وأولادك قبلوا أن يهبوك لي، وعلى والدك أيضاً أن يفعل). وبعد بضعة أيام كرر رغباته نفسها عندما كنا على سفح جبل (اسبارطة). كتبتُ رسالة إلى والدي قائلاً: (إن الأستاذ يعيش سنواته الأخيرة، ويرغب في رؤيتكم...). وفي أحد الأيام-وكان يوم الأربعاء- تركني الأستاذ حارساً لوحدي في (اسبارطة)، وسافر مع الاخوة الآخرين إلى (اميرداغ). وفي وقت الضحى ذهبتُ إلى دكان (الأخ رشدي الصباغ). وإذا بي أرى والدي حاضراً. أخذتُه إلى حيث مسكن الأستاذ-وكان الأستاذ يملك جهاز تسجيل للصوت- أعلمتُه برغبة الأستاذ في أن يهبني له. قرأ والدي أمام مسجل الصوت بعض الآيات القرآنية ثم تكلم: (يا أستاذي، إنني أهبكَ ولدي مصطفى وإلى الأبد. ولا أدّعي أي حقٍ لي فيه). ثم ذهب إلى (اميرداغ)، وهناك زار الأستاذ. ولدى عودة الأستاذ، وعندما كنت أعينه على صعود الدرج، قال: (الشكر لله سبحانه، إنك وأباك أصبحتما مثل جيلان وأبيه محمد جالشقان، ومثل صلاح الدين وأبيه نظيف).

كلُّ هذه الظواهر تدُلُّ على شفقة الأستاذ ورحمته. ليرض الله عنهم جميعاً.


الأستاذ يرسلني إلى ازمير

بعد انتهاء محاكماتنا مباشرةً، أرسلني الأستاذ إلى ازمير بتاريخ 30 أيلول 1949. ومعي والدي. لم أكن ارغب في ترك الأستاذ والذهاب مع والدي، وفكرت في النزول من القطار المتوجه إلى ازمير والهروب منه والعودة. وعندما كنت اُصلّي مع الأستاذ في صلاة العصر، كنتُ أقول مع نفسي (لن أفارق الأستاذ مطلقاً). التفت الأستاذ بعد الانتهاء من الصلاة وقراءة الأدعية، (أنت عليك أن تغادر حتماً) وفي طريقك تعرج على اسطنبول وتلتقي بالاخوة (أشرف أديب ومهري حلاو ووجيهي، حيث هناك خدمات يجب أداءها). ثم أعطاني بعض التعليمات والتوجيهات وطلب مني إبلاغهم بعض الأمور في مجال أداء الخدمة. وفعلاً غادرت (آفيون) مساء ذلك اليوم. وفي ازمير قابلت بعض المعارف وتعرفت على بعض المحلات. وزرنا الاخوة (أحمد فيضي) و (مصطفى بيرليك)، وكان الأخ أحمد فيضي معروفاً في أطراف (ازمير وآيدين) ودخل سجن (دنيزلي) و (آفيون). كان يتمتع بقوة التعبير والمنطق وله علاقات واسعة. وقد سمّاه الأستاذ (المحامي المعنوي لرسائل النور)، وقد جلب انتباه الحكام في محكمة (آفيون) بقوة دفاعهِ. كما وله مؤلف باسم (مائدة القرآن وخزينة البرهان)، أشار فيه إلى الآيات والأحاديث التي استندت إليها رسائل النور، وكان الكتاب معروفاً في تلك الأرجاء. وكان الأستاذ قد نبّهه إلى ضرورة التفرغ لدراسة رسائل النور واستنساخها وهو في السجن بدلاً من الانصراف إلى استخراج الدلائل من الرسائل. غير أن الأخ أحمد فيضي أرسل مذكرة إلى الأستاذ وهو في حالة من الانكسار: (يا أستاذي، ربما العالم بأسرهِ سينكرونك، وأنتم بدوركم تؤيّدونهم عدا أحمد فيضي، فسوف أعلن على الملأ جميعاً إنكم المكّلف والمأمور بالخدمة الإلهية، تلميذكم أحمد فيضي قول).

كان المرحوم يقوم بنشاطات محمومة ومتوالية بين (ازمير ودنيزلي) بعد خروجه من السجن. ويؤدي الخدمات الكبيرة لحركة النور تحت ستار الأعمال الدنيوية، وإلى آخر عمرهِ. كان بمثابة قنديل رباني في منطقة (ايجة).

ولدى زياراته الأخيرة إلى الأستاذ، قال له: (إنني ومنذ ثلاثين سنة، عندما انظر إلى تلك الجهة "يقصد منطقة ايجة"، أرى روحاً عظيمة تقابلني. وإذا لم تكن أنت- يا أخي- موجوداً هنالك، كان عليّ الذهاب هناك).


المهدي ليس بنبي

أود هنا ذكر بعض الجمل المختارة من مرافعة الأخ أحمد فيضي التي ألقاها في المحكمة، تبركاً به:

(إذا ما كانت دولتنا علمانية فلماذا تتدخل في شؤون ديننا؟. في زمن يُنكر فيه عَلناً الواجب الوجود سبحانه، ويُفتخر فيه بتزييف أركان الدين المبين، ويُعظم فيه بل يؤلّه القانون البشر ويُتخذ إلهاً ويُنسبُ إليه صفة الخالق، هل إذن قولنا لأحدٍ من البشر أنه (المهدي) يعتبر جُرماً وجريمةً عظيمة؟. إن (المهدي) ليس بنبيّ. وليس هو بإنسان فوق البشر. بل هو إنسان مكلفٌ ومأمورٌ بإعلاء الدين الجليل وإعزازه ونشرهِ... لماذا تستكثرون علينا أن نصف الأستاذ، ذلك التمثال النوراني الذي يجسم الفضائل ويحارب الجهل والإنكار والإلحاد رغم عمره الفاني وغُربتهِ وانقطاعه والدسائس التي تحاك ضده ويظهر أعلى وأسمى معاني العفّة والصبر الجميل والتحمل الشديد ويضرب الأمثال العليا بجَلدهِ، غير معترفٍ أو ساعٍ إلى أية منافع دنيوية وأدنى فوائد ولذات مادية أو زخارف دنيوية، ولا ينتظر عوناً من أحدٍ كائناً من كان، أو يقبل أي عطاء من أحدٍ، وإنما وهب نفسه وعمره في سبيل الحقائق القرآنية السامية والمعارف المحمدية الجليلة...).

وفي السنين التي كان الأستاذ على قيد الحياة، بذل الاخوة في ازمير، ومنهم (عبدالرحمن جراح اوغلو) و(مصطفى بيرليك) جهوداً مباركة ونشاطاً محموماً في منقطة ازمير. أوصلتُ وبلّغتُ الاخوة في اسطنبول بتعليمات الأستاذ وتوجيهاته. ومن أركان العاملين البارزين في اسطنبول الدكتور (مصطفى اوروج) الذي كان يدرس الطب في جامعتها. وقد عبّر (الأستاذ) في إحدى رسائله عن اهتمامه وإعجابه بأدائه واصفاً خدماته بما يعادل خمسين سنة من الخدمة.


التقيتُ في اسطنبول بالرفاق القدماء للأستاذ

لقد سمعتُ بعض الذكريات عن حياة الأستاذ من أصدقائه، أمثال (مهدي حلاو) الذي كان من طلاّب الأستاذ في (وان) وأصبح محامياً... أما صديقه (أشرف بك) فقد اعتبر ظهور بديع الزمان في ديار الأناضول وقيادته مجموعة من الشباب المؤمن والنشء الجديد وتكونيه مجتمعاً من طلبة النور بمثابة البعث ما بعد الموت، في وقت ظُنَّ أن الدين قد مُحي من الوجود وخيم اليأس والقنوط على النفوس وفُقِد الأمل من أي إصلاح.

لقد عاصر هؤلاء ورافقوا الأستاذ في فترة إعلان الدستور- التي تعرف بفترة المشروطية- وكانوا على علمٍ تامٍ بقدراته وعلى دراية بمؤلفاته القديمة، ومعجبون بقدرته الخارقة ودهاءِه الكبير وقابلياته المتنوعة والواسعة. ولكن، وبعد إعلان الجمهورية وفي الفترات الأولى من هذا العهد، تعرضوا إلى التضييق والتنكيل والنفي والإبعاد والتجريد والحبس، غير أنهم لم يكونوا على علمٍ بمؤلفاته ومجموعة رسائل النور ولا بزمرة طلبته في حركة النور والذين يخدمون النور. وكانوا يقابلون ظهوره الجديد بصفة (سعيدٌ الجديد) وهذه المؤلفات والرسائل بإعجاب شديد وأنها حادثة خطيرة، ومظهرٌ عظيم القيمة والتقدير والشكران. ونفضوا عنهم آثار الخمول ونشطوا مجدداً وباشروا بتأليف الكتب والقيام بفعاليات في الخدمة الإيمانية والجهاد المعنوي.

اللقاء مع أحمد حمدي آقسكي في أنقرة

بعد رجوعي إلى قريتي عائداً من اسطنبول، كان الأخ زبير والاخوة آل جالشقان يراسلونني باستمرار واستمرت ارتباطاتنا وعلاقاتنا. بعد دخولنا إلى العام 1950، زاد شوقنا ورغبتنا إلى التقاء الأستاذ ومرافقته وخدمته. حتى إننا لم نُعدْ نسيطر على أنفسنا. وقد أدركنا أن هذه البوادر إنما لطف إلهي وتصرف معنوي. عزمنا على زيارة الأستاذ مع أربعة من أهالي قريتنا. كُنّا عادةً نمرُّ على (صفرانبولي) ونلتقي بمجموعة الاخوة هناك ونحمل معنا تحياتهم إلى الأستاذ ونتوجه إلى (اميرداغ). وفي هذه المرة عرجتُ على أنقرة وقابلتُ رئيس هيئة الشؤون الدينية وبدون سابق تخطيط، وهو (أحمد حمد آقسكي) الذي تحدث بكثير من الإعجاب والتقدير عن الأستاذ بديع الزمان وحمّلني تحياته واحتراماته إلى الأستاذ. وصلت إلى اميرداغ، ومن عجائب التوافق أن الأستاذ كان قد أعدَّ رسالتين إحداهما إلى هيئة الشؤون الدينية والأخرى إلى شخص رئيسها، وينتظر مَنْ يوصلهما، وكان (خسرو) قد كتب وأعدَّ الرسالتين بانتظار إرسالهما. (وردت التفاصيل في القسم الثاني من ملاحق اميرداغ).

استلم السيد (احمد حمدي آقسكي) الرسائل ووضعها على رأسه وقبّلها وأودعها خزائن كتبه. وكان يقول (إنني لم أشاهد عالِماً مثل (عبدالمجيد اونلي قول)، أما عِلمُ الأستاذ، فلا يمكن قياسه. إن عِلْمَه فطري وموهوب). لقد تأثر كثيراً برسالة الأستاذ وكأنه وجد فيها الحياة. (هذه الرسالة مندرجة في ملاحق اميرداغ).


إذا كانت الخدمة عندي من فضة، فالخدمة في أنقرة من ذهب!

بقيتُ في أنقرة عشرة أيام، وكان الأستاذ قد بعث معي رسالة إلى الأخ (عبدالله يكن) الذي يدرس في الجامعة. وهذه المرة، قُمنا معاً بالاتصال بطلاب الجامعة وأدّينا بعض الخدمة وأظهرنا بعض النشاط في خدمة النور والحمد لله.

رجعت إلى اميرداغ بعد عشرة أيام. ونلتُ شرف خدمة الأستاذ مدة عشرين يوماً. أمضي النهار في إحدى الغرف في مسكن الأستاذ، وأقضي الليل في غرفة صغيرة في الفندق. لقد مضت أربعة أشهر منذ إطلاق سراح الأستاذ من سجن (آفيون). كان الموسم شتاءً والجو معتدل على غير العادة، وكان الأستاذ يطلُّ من الشباك المواجه إلى الجنوب ويتفكر في المناظر التي أمامه ويستغرق في التأمّل. وبعد حوالي عشرين يوماً من الإقامة برفقته، أرسلني إلى (أنقرة) مجدداً. كنتُ أتمنى المكوث معه ولكنه كان يرسلني إلى أنقرة، ويقول لي في هذا الصدد:

(ياصونغور، إذا كانت الخدمة عندي من فضّة، فالخدمة في أنقرة من ذهب!). وقبل مجيئي، كان الأخ (زبير) في اسطنبول يفي واجب مكّلف به من قبل الأستاذ. أرسل من هناك رسالة، يبثُّ فيها نجواه ورغبته في البقاء في خدمة الأستاذ، وأنه لا يمكن له العيش بدون الأستاذ، وأن الرسالة كتبها والدموع تنهمر من عيونه. وفي بدايات العام 1950، التحق بخدمة الأستاذ.... وكنت بدوري من أصحاب الحظوظ الطيبة إذ رجعتُ إلى (اميرداغ) مع حلول الربيع. بقيتُ في خدمته إلى نهاية الصيف برفقة الأخ (زبير) و (ضياء). وكان أحد الأشخاص الطيبين قد خصص للأستاذ عربة (حنطور) مع الحصان لتنقلاته. وكان الأستاذ يعطيه بعض الأجور مقابل ذلك. وتولّى الأخ زبير سياقة العربة. وكنّا نركب معه أحياناً أو نرافقه راجلين. كنا أكثر الأحيان نستقر في بستان قرب قرية (كجيلي). وكان الطعام الذي نتناوله أثناء مرافقتنا الأستاذ يتشكل مما يلي: بعض الفواكه كالبطيخ أو العنب، يهدى ألينا وكان يردّ لأصحابها أثمانها، ويقوم بتقسيمها بيننا في وجبة الظهيرة.


صونغور ولدي المعنوي

عندما قمتُ بخدمته وحدي خلال شهر شباط، اكتشفت مدى تقصيري وعدم خبرتي في هذا المجال الذي كنت حديث عهد به. غير أن شفقة الأستاذ شملتني وغطت جميع مناحي حياتي. وخلال الأيام العشرين تلك، زارنا السيد الأخ (العقيد خلوصي). وكانت تلك المرة الأولى الذي يقوم بزيارته بعد فراقه من (بارلا)، أي بعد عشرين سنة. لقد أكرمه الأستاذ على أحسن وجه. سمعته يقول للعقيد (خلوصي): (إنّ صونغور ولدي المعنوي، كما هو ابنُك المعنوي أيضاً). وعند مغادرته قال لي الأستاذ: (لقد وجدتُه وبعد عشرين عاماً من الفراق وكأنه فارقني مدة عشرين يوماً، وهو على نفس حالهِ. قلْ له ذلك). وعندما نقلتُ كلامه إلى العقيد (خلوصي)، أجابني: (في الحقيقة أنني أيضاً على نفس القناعة. إنني أحسُّ وأشعر وكأنني لم أفارقه عشرين عاماً، وكأنني مقيمٌ معه وأرافقه دائماً. لقد شعرت أنا كذلك بهذا الشعور، وأعيش فيهِ).

إن الأخ (خلوصي) تعّرف بالأستاذ في (بارلا) عندما كان ضابطاً فيها. وأصبح من أوائل طلبتهِ. ورد اسمه في (اللمعة الثامنة). وفي نهاية إحدى القصائد المنسوبة إلى الشيخ عبدالقادر الكيلاني: [ وكُن قادريّ الوقت لله مخلصاً.... تعش "سعيداً "صادقاً بمحبتي]. وكأن كلمة "مخلصاً" تدّل على معنى اسم الأخ "خلوصي"، وهو بذلك الطالب الأول للأستاذ وللنور.....

عندما يأتيه الزوّار، ويبدأ بتوجيه كلامه لهم، كان أحيانا يفور حماسة، وبالخاصة عندما يؤكد على خدمات رسائل النور ومدى وقوفها أمام الإلحاد والشيوعية. وكثيراً ما شهدتُه يقول: (إنني أسألكُمْ، لماذا لا تقدر علينا هذه القوة التي بلغت 700 مليون في الصين ونصف أوربا؟ مع العلم أنها تحقد علينا منذ ألف سنة. إنني أقسم، بهذا القرآن العظيم، أن هذا القرآن الحكيم أصبح ستاراً وحامياً. كما وأن رسائل النور التي هي تفسير عصري لمفاهيم هذا العصر كان سدّاً منيعاً. فمثلاً هذا الطالب الذي هو عقيد – ويهمس إلى الجالس جنبه باسم العقيد (خلوصي)-، قد رسم سداً وحدّاً من "اورفا" إلى أطراف "قارس" أمام الشيوعية. وأوقف الشيوعية برسائل النور، والأنوار التي استخرجها منها.). وكان يذكر أيضاً خدماته في بداية عمرهِ في المنطقة الشرقية. ولله الحمد، ظهر في المدن الرئيسية من المنطقة الشرقية أمثال (ارضروم ووان وديار بكر واورفا)، أبطالٌ صناديد من كوادر النور ومن العلماء الصادقين والمجاهدين الأفذاذ وقفوا أمام انتشار الشيوعية رغم قربهم من حدودها، ولم يثنِهم أي مانع ولم يتراجعوا أو يترددوا.

والآن، هناك الآلاف من طلبة النور الصادقين والمضحّين في كل أرجاء الولايات الشرقية، يقومون بأداء الخدمات لحركة النور وكأن الواحد منهم أصبح (سعيداً جديداً) يؤدون خدماتهم النورية ضمن حدود ودستور (رسائل النور).


طلبة النور أمام الانفصالية

إن جهود الأستاذ في سبيل تحقيق إنشاء جامعة في المنطقة الشرقية أثمرت في تأسيس (جامعة ارضروم) وظهرت بصورة جلية وجميلة جداً. وبدأت بنشر بذور الخير و النور في أرجاء ومدن المنطقة. إن الفصول التدريسية التي بدأت في (اورفا) أولاً، ووجود الاخوة (زبير وجيلان وعبدالله وحسني) الذين أرسلهم الأستاذ، شكّلوا النواة الأولى للنور بعد مغادرة الأخ (خلوصي)، وقدموا خدمات جليلة في مجال الارتباط المعنوي بين أرجاء العالم الإسلامي وبمشاركة الأخ (السيد صالح) الذي هو من (اورفا) أيضاً. وأصبح الأخ (محمد قايالر) في (ديار بكر) وسيلة في نشر مفاهيم النور وبروز جملة من العاملين والعلماء ساهموا في انتشار الرسائل في تلك الأرجاء. وكذلك فعل طلاب النور في (غازي عنتب) حيث ازدهر في أنحاء الأناضول أزاهير البركة. والآن، توجد فصول دراسية لرسائل النور في كل المدن والبلدات وحتى بعض القرى في تلك المناطق. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن النتائج المتحصلة والتي تخص النواحي الأخروية والمعنوية، صاحبتها من جهة أخرى، فإن رسائل النور كانت السبب في إرساء مفاهيم التآخي والوحدة وتحقيق خير البلد وسعادته. إن هذا الموضوع وحده ربما يحتاج إلى بحوث معمّقة لإبراز مدى عظمة النتائج المتحصلة، وعرضها على الرأي العام مستقبلاً. أين هذا الواقع أمام الاتهامات الباطلة للمغرضين؟ إن بديع الزمان ورسائله وطلبته وخدماتهم الكثيرة ساهموا في تحقيق تأمين الوحدة والتكامل بين أبناء هذا البلد ولمدة استمرت قرناً كاملاً. إن المدّعين المذكورين ساهموا فعلاً في نشر الإشاعات المغرضة والأفكار الهدّامة، ووقف أمامهم في كل مرة طلبة النور وكوّنوا سداً منيعاً. إن طلبة النور هم الذين قابلوا المغرضين بنور إيمانهم وردّوهم على أعقابهم.

لماذا فعلوا هذا؟، لأن الأتراك مع الأكراد من أبطال الإسلام ومجاهديهم، هم إخوة بصدق. أما الذين يدعون إلى التفرقة والخصام فهم أعداء الإسلام اللّدودون. لقد رأى إخوة الشرق هذه الدسائس بنور إيمانهم. ولم ينخدعوا بألاعيب استهدفت الأتراك بل الإسلام.

كان الأستاذ يكلّمُ مخاطبيه حسب قابلياتهم ومستوياتهم

وفي عام 1950، أمضينا مع أستاذنا في (اميرداغ) أسعد وأجمل الأوقات. كنت أقيم في غرفة في بيت عتيق مقابل مسكن الأستاذ ومعي الاخوة (زبير وضياء). كان دكان (آل جالشقان) بمثابة مركز خدمات، وكانوا يشكلون عائلة شريفة ومحترمة. وقد تشكلت في اميرداغ مجموعة نورية محترمة. ولا عجب، فالأستاذ أينما ذهب أو حلَّ، تكونت حوله هناك زمرة نورانية. وكان الأستاذ يكلّم مخاطبيه حسب قابلياتهم ومستوياتهم. وكان الجميع يخرجون من عنده برضى تام وقناعة كاملة. كما وأن زواره كانوا على مستويات مختلفة. كان يكتب رسائل للبعض، ويكلّف غيرهم بواجبات مختلفة عندما يكون مخاطبه موظف إداري كبير أو مدعي عام. ولكن جميع هؤلاء وجدوا فوائد جمّة وأدركوا قابليات ومدارك عالية. وكان يلقنهم حقائق الدين والقرآن ويحثهم على أداء الخدمة الدينية إلى جانب واجباتهم الدنيوية والمعاشية سواءً في المدن والبلدات أو في القرى. وهكذا كان حبُّ الله والعمل في سبيل الدين يتعاظم ويتعالى عند الجميع. ويصبح الإسلام غاية وهدف ذلك الإنسان.


إن السلطان عبد القادر، هو بديع الزمان هذا العصر

كنّا يوماً في كوخ ريفي في بساتين قرية (كجيلي). وصادف أن كنتُ مقدماً شكوى لدى المحكمة العليا ضد إخراجي وفصلي من مهنة التعليم، وكنتُ على وشك المغادرة إلى أنقرة لحضور المحاكمة، فقد عرضتُ الأمر عليه، وأفهمني بعض الإفادات التي تفيدني في دفاعي، وأشار حتى إلى موضوع الحشر ذاكراً (ابن سينا) وكرر عليّ ما يتوجب قوله في دفاعي. ولكنني لم أكن أقدر على الإحاطة بكل ما يقوله الأستاذ لي. ربما بسبب إعجابي الشديد به بحيث كنتُ أتلقّى تعليماته بقلبي وليس بفكري وعقلي. وفي أيلول من نفس السنة، بعثني إلى (أنقرة)، وأرسل الأخ (ضياء) إلى (اسطنبول). أقمتُ في أنقرة مع الاخوة (صالح وعبدالله وأحمد وضياء نور). أما الأخ (جيلان) فقد أرسله بعد الخروج من السجن إلى (اورفا) التي أمضى فيها ستة أشهر عاد بعدها إلى (اميرداغ)، ثم أرسله أيضاً إلى (أنقرة). وقد أقمتُ زمناً مع الأخ (سيد صالح) الذي كان يدرس الطب. كان كثير الفعالية والنشاط. ويقوم بالاتصالات الخارجية، حتى لقَّبه الأستاذ قائلاً عنه (انه وزير خارجيتي). أدركنا بعد ذلك، أن دائرة هذه الجماعة النورية ومصنع المعنويات بحاجة إلى جميع أنواع الاختصاصات والمهارات والقابليات.

طلب منّا الأستاذ خريف عام 1950 التعرف بالسيد (عثمان نوري) وأرسل له رسالة. كان إنساناً موقّراً ومحترماً. شغل سنوات الحرب إماماً ومفتياً في الجيش، وبعد ذلك عمل (25) سنة مفتياً بوزارة الدفاع كان الأستاذ ينظر إليه بعين التقدير والمحبة، وهو بدوره يكنُّ للأستاذ الحب والتقدير. وكان على معرفة (بسعيد القديم) منذ أيام إعلان الدستور، وقرأ له جميع كتُبهِ. كان يجيبُ عمن يسأل ويستفسر عن الأستاذ: (إنه بديع الزمان إنه في هذا العصر بمثابة الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، والشاه النقشبندي، والشيخ عبدالقادر الكيلاني).

كان يقوم بدعوة الأستاذ إلى (أنقرة) ويرجوه قائلاً (إنني أبني غرفة في أنقرة، تعال لمشاهدتها رجاءً). ويجيبه الأستاذ (ليُقِم طلبتي في أنقرة بدلاً عني في تلك المدرسة النورية). وهذه الرسالة مذكورة في (ملحق اميرداغ).


لم يكن الأستاذ يهتم بحزب الأمة

كان للمرحوم (عثمان نوري) العديد من المعارف والأصدقاء بين الحكام والعسكريين والإدارة العليا في (أنقرة). وقد تشكل (حزب الأمة) بدايةً في داره وبحضور 33 شخصاً وكان هدف الحزب هو ( الإسلام) والعمل لخدمته تماماً. لم يكن الأستاذ يهتم أو يرغب في هذا الحزب خشية التفرقة والتناحر بين الجبهة الديمقراطية والمتحررة أمام (حزب الشعب الجمهوري) وإضعاف الجبهة المقاومة للخطر الشيوعي والإلحادي الداهم والمتوجه نحو البلاد. وقد كتب بعض المقالات والأبحاث حول هذا الموضوع، منها مثلاً: (وبخصوص "حزب الأمة"، إذا كان الهدف والأساس هو الاتحاد الإسلامي والقومية والوطنية الإسلامية، والتي امتزجت فيها مفهوم القومية التركية، مُشكّلةً أمةً واحدة، فإنّ هذا كائن في معنى الديمقراطية، ويتطلب بل ويتوجب الالتحاق بالديمقراطيين المتدينين. لقد نشر الغرب وأوربا داء العرقية والعنصرية القومية بين العالم الإسلامي لكي يفتت العالم الإسلامي. ولما كان هذا الداء يملك الجاذبية والإغراء والتشويق، فإلى جانب مخاطره وأضرارهِ العديدة، يجد كل شعب وأمة فيه الاشتياق والرغبة، جزئياً أو كلياً...).

الاتصالات مع الحكومة في أنقرة

في الأشهر الأخيرة من عام 1950، ومع ابتداء الدراسات في الجامعات والمدارس في أنقرة، كان لبقائنا في هذه المدينة آثار طيبة في مجال تقديم خدماتنا. وكان الأستاذ يعطي أهمية خاصة لأنقرة. وكان يبعثني كل بضعة أسابيع إلى أنقرة رغم رغبتي الشديدة في البقاء معه وفي خدمته. وكان بين الاخوة الموجودين في أنقرة في تلك الأوقات، كلٌ من (جيلان وحسني وعبدالله). وبناءً على أمر من الأستاذ، رجع (جيلان) وجاء إلى (أنقرة). بقينا معاً في أماكن التدريس عدة مرات وشاركنا أحياناً كل من (ضياء نور وسيد صالح) كما جاء الأخ (حسني بايرام) من (صفرانبولي) وشاركنا في قافلة خدمة النور. مع مجيء الحزب الديمقراطي إلى الحكم، بدأت نشاطاتنا –كلاً أو جزءاً- في محيط الجامعات، بإلقاء المحاضرات والتدريس في المساجد الموجودة في الجامعات في مواضيع تتعلق برسائل النور والخدمات المطلوبة في سبيل النور. ولما كانت محاكمات (آفيون) لم تصل إلى نهاياتها بانتظار قرارات محكمة التمييز، فإن الاتصالات مع الرئاسة ومجلس الوزراء وبعض الوزارات كانت متواصلة. وكان للأستاذ بيانات وتصريحات وتحذيرات إلى تلك الجهات، وتجري مع بعض النواب خاصةً. ويذكر أن نائب (آفيون) السيد (غازي يكيت باش) ونائب اسبارطة (تحسين تولا) بذلا جهوداً في تشكيل علاقات خاصة مع رسائل النور والنوريين.


خدمات النشر في أسكي شهر

ثم ظهرت الحوادث المترتبة من تحرك جماعة (التيجانيين). ذهبت مع (جيلان) إلى (آدا بازاري) وإلى (اسطنبول). وبناءً على أمر الأستاذ ذهبنا إلى (اسكي شهر). استقر بنا المقام في دار (الحافظ عثمان) وقمنا بتكثير ونشر رسائل (الحجة الزهراء) وبالحروف الجديدة والقديمة. كما واستطعنا نشر الرسائل (الشعاع الثاني و (الخطبة الشامية ونوى الحقائق). وكان الأستاذ قد أنجز ترجمة (الخطبة الشامية) إلى اللغة التركية. وفي (اسكي شهر) كانت اتصالات خاصة تجري مع الضباط ونواب الضباط. وكان التركيز في الدروس ينصب حول رسائل النور ومواضيع الإيمان والعبادات.


الأستاذ في اسكي شهر

وأخيراً، وفي يوم 1 محرم عام 1371هـ. جاء الأستاذ وبرفقته (محمد جالشقان) إلى (اسكي شهر)، واستقروا في فندق (يلدز). وعندما استأذن (محمد جالشقان) للرجوع، قال له الأستاذ (يامحمد، لقد أديت خدمة تعادل خدمة مائة عام) مقدراً له عمله.

بعد ذلك، لم يعُد الأستاذ يطيل البقاء في (اميرداغ)، ولكنه لم يقطع التواصل معها. وبعد مكوثه في (اسبارطة) ردحاً من الزمن، ذهب إلى (اسطنبول) لحضور محاكمات (مرشد الشباب). ورجع منها إلى (اميرداغ) واستقر فيها إلى أواسط عام 1953، وكان يتردد أحياناً إلى (أسكي شهر). وأخيراً استقر في (اسبارطة) وأمضى فيها السنوات السبع الأخيرة من حياته. وكان يدرّس الطلاب والقائمين بخدمته والمقيمين معه من الاخوة في كتبه ومؤلفاته وبالخاصة المكتوبة بالعربية وهي (إشارات الإعجاز والمثنوي العربي النوري) وأخيراً من مجموعة [كليات رسائل النور] التي طبعت ونُشرت في (أنقرة واسطنبول).

نظرة الأستاذ إلى العسكريين

في أسكي شهر، كان الضباط وضباط الصف الموجودين في القاعدة الجوية يتصلون بالأستاذ ويأتون لزيارته. وكان يرعاهم ويظهر معهم لطفاً ومعاملة خاصة. يتحدث إليهم عن حياته وما لاقاه ويشرح لهم أهداف وغايات رسائل النور ويؤكد كثيراً على دور الجيش. كان يذكر إسهام هذا الجيش في نشر لواء الدين المبين وخدمة القرآن طوال عصور عديدة وفي أرجاء كثيرة وواسعة من المعمورة، رافعين علمه المظفّر، ويعتبر ساعة واحدة من الضباط من أهل الإيمان والدين معادلاً لساعات عديدة من العبادات، وأن خدمات الضابط المتدين والمؤمن تكافأ بألف مرة، ويقول إن كل ساعة من القائمين بأداء الصلوات منهم، بمثابة 20-30 ساعة من العبادة، ويتمنى لهم الانضواء تحت لواء الإيمان. كما ويعتبر وقوفهم أمام الفوضوية بمثابة الجهاد المادي.


الأتراك الحقيقيون لا يظلمون

كان الأستاذ المحترم يحب الأناضول، ناظراً بعين الإيمان ونوره. ويعتبرها المخفر المتقدم وحارس الحدود. ويظهر لجميع الساكنين والمقيمين في تركيا كل الشفقة ومن أعماق قلبه، ويحب الشعب التركي كثيراً:- (إنني انظر وأرى، إن الذين ظلموني كثيراً، ليسوا من الأتراك. إن الذين يظلمونني هم المختبئون والمتسترون وراء الحكومة التركية من الأقوام الأخرى). و (إنني أرى في الأتراك أكثر الخصال العالية والبطولة المعنوية من أي قوم آخر).

كنا نقوم بخدمة الأستاذ ومتواجدون في فندق (يلدز) في (اسكي شهر). مرّت فوقنا مجموعة من الطائرات النفاثة مصدرةً صوتاً عالياً جداً. قال الأستاذ مبتسماً (إن شاء الله، ستؤدي هذه الطائرات في وقتٍ ما، خدمة عظيمة للإسلام). وقال موجهاً كلامه لي (يا صونغور، إن في العسكرية روحاً هي مقرّبة وصديقة لي، لا أدري، ربما هي فرد واحدٌ أو جماعة، من الأولياء أو من الأقطاب، لا أدري ولكن هناك روحاً، هي صديقة وخليلةٌ معي).


إنني أفتخر بهؤلاء

وكذلك حصل مرة أخرى، ونحن جالسون معه في غرفته، مرت طائرات من فوقنا مصدرة أصواتاً عالية، وقال الأستاذ من دواخل نفسه وفي سرور وحبور: (إنني افتخر بهؤلاء. افتخر أمام بقية الموجودات كونها من اختراع بني جنسي، ونيابة عنهم جميعاً، وفي خريف عام 1951، بعد أن مكثتُ معه بعض الوقت، أرسلني إلى (أنقرة). وأبقى في خدمته الأخ (أحمد) وهو برتبة رئيس عرفاء في القوة الجوية. وكان يوجد في حينه جماعة قوية وفعالة من الاخوة في (اسكي شهر).

الشيخ الحاج حلمي افندي

كان الشيخ الحاج حلمي المطّلبي يرتبط بالأستاذ بعلاقات وشيجة. وكان طلابه ومريدوه، مع التابعين للشيخ (الحاج عبدالله أفندي) وكذلك مريدو (الحاج علي أفندي جالشقان)، قد انضووا في قافلة طلبة النور. وكان الأستاذ يذكر هذا الإنسان والولي الكبير بالخير دائماً. ويقول (إنّ جميع المنتسبين إلى الشيخ الحاج عبدالله أفندي مرتبطون بي، وكذلك يظهرون اهتماماً برسائل النور). لقد أعطاني مفتاح البيت في أحد الأيام، وقمتُ بغلق الباب بناءً على أوامره. وبينما أنا في الخارج، جاء الشيخ الحاج (حلمي أفندي) وعاد كما أتى. وقال الأستاذ عن ذلك (إن في ذلك لحكمة ما!). ثم رجع ثانية والتقيا معاً.


جاء الأستاذ إلى اسطنبول لمحاكمات (مرشد الشباب)

بعد ذهابي إلى (أنقرة) بمدة وجيزة، جاء الأستاذ إلى (اسبارطة). وبعد أن أقام بعض الوقت في دار الأخ (خسرو)، ذهب إلى اسطنبول بمناسبة انعقاد جلسات المحاكمات المتعلقة برسالة (مرشد الشباب). وفي تلك السنة، نشرت رسائل (مرشد الشباب) و (مرشد أخوات الآخرة) والرسالة التي تضمنتها (مفتاح عالم النور)، بعضها في (اسبارطة) والبعض في (اسطنبول). وحول المدة التي قضاها في اسطنبول أورد الأستاذ في (مفتاح عالم النور) ما يلي:( إنني أبشّركم بكل كياني وروحي، إن جميع ما يصيبنا من مصائب، وبفضل التساند والتكاتف لا يعمل على زعزعة صفوف الاخوة النوريين) تحولت في مجال خدماتنا الإيمانية إلى نِعم ٍ كبيرة، ويحدثُ فتحاً مبيناً لحركة النور من وراء الستار.).

لقد حدثت محاكمات (مرشد الشباب) بسبب طبعها من قبل السيد (محسن آلو) الذي كان طالباً في الجامعة. لقد أوجد مجيء الأستاذ إلى (اسطنبول) جواً من التفاؤل والحركة في المحيط الفكري هناك واستقبل بكثير من الفرح والغبطة. وأصبح سبباً لانتشار رسائل النور بصورة أكبر وأعمّ. وتعتبر (اسطنبول) مركزاً يجمع الكثير من الفعاليات الثقافية والنشر. وتعتبر –لهذا السبب- ذات أهمية بالغة لتطور وانتشار وتعميم أفكار الرسائل محلياً وعالمياً.

لقد اهتم الأستاذ بصورة خاصة بمدن مثل (اسطنبول وأنقرة واورفا ودياربكر) واعتبرها مراكز خدمة. وتحمل كلٌ منها معنىً خاصاً. وعلى هذا الاعتبار، كان الأستاذ يعطي للعاملين في هذه المراكز أهمية خاصة.

كان في اسطنبول العديد من الطلبة القدماء للأستاذ، أمثال نزيل سجن (دنيزلي)، (سيد شفيق أفندي) الذي كان أحد طلبته في (وان)، وكذلك (محمد أفندي كوننلي) و (رأفت بك) من أركان (مدرسة الزهراء)، و (الحافظ أمين) وغيرهم.


كان الأستاذ يتعامل مع طلابه بطريقة تبعث الهمة والصلابة فيهم

لقد كان من فضل الله وإحسانه، أن جعل جماعة من الناشرين ومن في خدمة الإيمان يظهرون في السنوات الأخيرة من حياة أستاذنا (سعيد الجديد). وبدأت نخبةٌ من الشباب، أمثال (أحمد آيتمور وضياء وعبدالمحسن وعزير، وحقي ومحمد فرنجي) من طلبة (سعيد الجديد)، يحملون على أكتافهم تأدية الخدمات النورية. ثم التحق (محمد برنجي) أيضاً بزمرة العاملين في اسطنبول. وهكذا وبفضل الله، انتشرت مراكز خدمات النور وتوسعت في العديد من المدن، وكان الأستاذ يتعامل مع طلابه العاملين فيها بشكل يبعث الهمة والمتانة والصلابة فيهم. وقال للأخ (محمد فرنجي) يوماً بما يعني أنه (خسرو اسطنبول)، وهكذا يتلطف معهم ويقوّي من عزائمهم.



البطل الأكبر للنور

قال للمحامي (بكر برك) الذي تولى الدفاع عن حركة النور وعن شخص الأستاذ في محاكمات أنقرة عام 1958: (البطل الأكبر للنور...). وقد أيّد هذه الحقيقة التي نطق بها الأستاذ أثناء محاكمات ازمير عام 1971 عندما هاجم المدعي العام الأستاذ والحركة بكثير من الشدة والقسوة، ووقف له المحامي (بكر برك) وفند حججه وبكثير من القوة ومظاهر التعالي والبطولة.

يروي السيد نائب اسبارطة الأخ (تحسين تولا):

زرتُ الأستاذ في (اسبارطة) عام 1956 وبعده، عندما بدأ طبع الرسائل ونشرها بصورة رسمية. تلطف معي كثيراً وأظهر الاهتمام الكبير وقال لي كلاماً يحمل معاني جميلة واصفاً شخصي: (كأنك معي وأحد المرافقين لي).

إن الحادثة المعروفة (بواقعة مالاطيا) والتي جُرح فيها الكاتب (أحمد أمين يالمان)(1)، أصبحت وسيلة وسبباً للهجوم على المتدينين والوطنيين وبدأت سلسلة من الاعتقالات، وتصفية مراكزهم ومواقعهم والتنكيل بهم والتخلص منهم. وخلا الجو من المتدينين والوطنيين، وكان هذا سبباً لظهور الحركة اليسارية النشطة التي أصبحت بلاءً على الحزب الديمقراطي لاحقاً، وقاموا بالهجوم على أجنحة الحزب واتخذوا موقفاً معادياً. لقد حذر الأستاذ بديع الزمان من مغبة الأمر، واعتبر القضاء على "اليمين" في مصلحة ظهور "اليسار" وتقوية شأنه. وهذه هي إحدى تلك التحذيرات:_

(انه لا وسط بين الكفر والإيمان، ففي هذه البلاد وتجاه مكافحة الشيوعية فليس هناك غير الإسلام؛ وليس هناك وسط. لأن التقسيم إلى يمين ويسار ووسط، يقتضي ثلاثة مسالك. وهذا قد يصدق لدى الإنكليز والفرنسيين، إذ يمكنهم أن يقولوا اليمين الإسلام واليسار الشيوعية والوسط النصرانية. إلاّ أن الذي يجابه الشيوعية -في هذه البلاد- ليس إلاّ الإيمان والإسلام. فليس هناك دين ومذهب آخر يجابهها إلاّ التحلل من الدين والدخول في الشيوعية، لأن المسلم الحقيقي لا يتنصّر ولا يتهوّد، بل -إذا خلع دينه- يكون ملحداً فوضوياً إرهابياً.

كما أدرك وزير المعارف والعدل هذه الحقيقة سيدركها بإذن الله سائر الأركان في الحكومة حق إدراكها، فيحاولون الاستناد إلى قوة الحق والحقيقة والقرآن والإيمان بدلاً من اليمين واليسار، وينقذون بإذنه تعالى هذا الوطن من الكفر المطلق والزندقة ومن دمارهم الرهيب. فنحن نتضرع إليه تعالى بكل كياننا أن يوفقوا في ذلك).


آثار حادثة مالاطيا

إن ردود الفعل إزاء حادثة (مالاطيا) كانت كبيرة في محيط المجتمع المحافظ وأهل الإيمان وعموم الشعب التركي. كأنَّ سياسة الحكومة والدولة تغيرت كلياً نتيجة إطلاق الرصاص على (أحمد أمين يالمان)، وهذه الفترة القصيرة من الرفاه والحرية التي أعقبت فترة القهر والاستبداد التي طالت (27) سنة الماضية، وبدأت محاولات إسكات الفئات المؤمنة والوطنية والتي تسعى إلى إطلاق الحريات، وتعرضت إلى العقاب والتنكيل. وبدأت فترة من الكبت والزج في السجون. واعتبرت الأجنحة التي تضم النواب المؤمنين، هذا التحول في سياسة الحكومة بمثابة الرجوع (180) درجة وعلى عكس الاتجاه، وهكذا رجعت التيارات والقوى المعاكسة إلى الظهور ووجدت في هذه الإجراءات منفذاً للظهور مجدداً. وبدأت قوى اليسار الهجوم على الحكومة وهي تردد عبارات وشعارات ضد الرجعية، وتعرض المؤمنون إلى هذه الحملة بصورة خاصة.

أين هي الرجعية الحقيقية ومع مَنْ؟

وفي تلك الأثناء كانت للرسالة التي كتبها الأستاذ وفي مقدمتها: (يا أخوتي، إذا ما وجدتم من الأنسب، والمفروض تسليمها إلى رئيس الوزراء والنواب المؤمنين وتتضمن التحذيرات وحقائق مهمة للغاية.)، كانت الجواب الشافي للاتهامات الموجهة إلى الفئة المؤمنة وإلصاق تهمة الرجعية بهم. كان الأستاذ بهذه الرسالة يوضح أين هي الرجعية الحقيقية ومع مَنْ. كنّا نتمنى أن يقرأ الجميع وعلى كافة المستويات تلك الرسالة من ملاحق (اميرداغ).

الإثبات الأكبر

لوحظت آثار حادثة (مالاطيا) على دائرة النور أيضاً. كانت تصدر مجلة أسبوعية في (صامسون) تحت عنوان (الجهاد الأكبر). كنا نرسل بعض الرسائل التي نعنونها إلى بعض الوزراء والنواب إلى تلك المجلة لنشرها. وقد نشرت المجلة المذكورة إحدى تلك الرسائل بكاملها مع وضع مقدمة وخاتمة من عندها، وعنونت الموضوع بـ (الإثبات الأكبر)، وأضافت تقول (وهذا إثبات على سوء المعاملة التي تعرض لها بديع الزمان، وكذلك (دحض إدعاءات الديمقراطيين باعتبارهم أنصار الدين...). كنتُ في ذلك الحين عند الأستاذ في (اميرداغ) عندما طلبَ المدعي العام إجراء تحقيق مع الأستاذ. من المعلوم أن الرسالة كانت تتضمن شكوى إلى النواب، ولم أشر إلى كوني أنا مَن أرسل الرسالة إلى المجلة آنذاك.


الدعوى المقامة في صامسون

هكذا أقيمت دعوى في محكمة الجزاء الكبرى في (صامسون) ضد الأستاذ وضد مدير المجلة. أرسلني الأستاذ إلى أنقرة مجدداً. وقد صدرت أوامر بتوقيفنا أيضاً عندما عُثر على الرسالة المذكورة في المجلة. جرى إلقاء القبض علينا في 19 شباط 1953 وأُرسلنا إلى سجن (أنقرة). أمضيتُ هناك شهراً كاملاً. كان معي أحد المحكومين الشيوعيين وكذلك شيخ (التيجانية) (كمال بيلاو اوغلو) وأحد الدراويش المجذوبين واسمه (محمد عزالدين) من (اورفا).


واقعة التيجانيين، وبيلاو اوغلو

كنتُ أحمل معي بعض الرسائل مثل (الشعاع الثاني). أقضي وقتي في قراءتها واستنساخها. كان (بيلاو اوغلو) يحمل قناعات إيجابية نحو الأستاذ. كان يردد بعض التعابير الدارجة لدى الصوفية: (البقاء بالله هي المرتبة التاسعة وهي المرتبة الأخيرة. وهي الحدود القصوى للولاية. إن "سعيد النورسي" في هذه المرتبة. والشيخ الغوث الأعظم عبدالقادر الكيلاني أيضاً من هذه المرتبة). قرأتُ عليه يوماً بعض المقاطع من (الشعاع الثاني). استمع ثم قال: (إنكم تقولون أن "سعيد النورسي" ليس له علاقة بالصوفية والتصوف. ولكن هذه الحقائق تظهر بعيان أنّ هذا الشخص في موقع مشاهدة الأسماء الإلهية في هذا الوجود). كان معاونه (كامل تونالي) يبدو متشدداً ومتعصباً أكثر من شيخه. وقد قال (بيلاو اوغلو) بشأن الرسالة التي نشرها بعنوان (ناشر النور) والتي كانت السبب في انتشار ظاهرة تحطيم التماثيل والهياكل والحوادث اللاحقة، أنّه ليس الذي أمر بنشر الرسالة وإنما فوجئ بها، وتبين أن السبب هو (كامل تونالي) الذي حذره وطلب منه تسليم نفسه إلى الجهات الأمنية. ومن أقوالهِ أيضاً: (إنّ ما يُقدَّرُ ويثمن في "سعيد النورسي" هو عدم اتباعه أمثال هؤلاء المجذوبين والمجانين مثلما فعلنا نحن ولم يُشغلِ نفسه بهذه الأمور، وإنما سعى إلى إرشاد الشباب والمثقفين). ويُذكر عنه، أنه انشغل بتأليف الكتب والنشر بعد إطلاق سراحهِ.


لم أجد مثل سعيد النورسي من يعبّر عن حاكمية القرآن

جاءنا إلى الردهة التي نقيم فيها المدعي العام مع المدير. شكوتُ من عدم إرسالي إلى (صامسون). أجابني المدعي العام: (لقد قرأتُ رسالة (المرضى). ولم أجد فيها الكثير من الأمور العلمية.). جاوبته: (اسمعوا إذن هذه أيضاً...) وقرأت عليه مقاطع من (الشعاع الثاني). قالوا حينئذٍ (هذه في الحقيقة موضوع يضم العلوم فعلاً). التفت إلى (بيلاو اوغلو): (وأنت، ماذا تقول عن سعيد النورسي؟). أجاب (بيلاو اوغلو): (لقد قرأت التفاسير الكثيرة. غير أنني لم أصادف أحداً غير سعيد النورسي يعبّر عن حاكمية القرآن بأجمل وجه وأكمل شكل...).

وفي اليوم التالي، جرى سوقي إلى (صامسون) في يوم شديد البرودة وفي معصمي القيود الذهبية. وعند الظهيرة وقفنا لصلاة الظهر، وفك الجندرمة قيد معصمي، ولم يقيدني ثانية. كان معي أيضاً (حسين يوجل) من المجلة. وُجّهت إليه ثماني تهم. وفي المحكمة، كان المدعي العام يلحّ على ضرورة حضور الأستاذ إلى (صامسون) رغم التقارير الطبية الكثيرة التي تؤكد مرضه وعدم إمكانية حضوره.


تلاوة القرآن من الراديو كانت سلواننا الكبير

استمرت محاكماتنا أربعة أشهر، وصدر القرار بحبسي 18 شهراً. وفي سجن (صامسون) سمعنا صباح يوم الجمعة ومن الراديو تلاوة القرآن الكريم التي شرحت صدورنا وبعث الأمل والحبور في نفوسنا. وهكذا توالت أيامنا في السجن، وكانت سلوانا أخوة النور الذين وقفوا معنا وضمنوا لنا شحنات من المعنويات العالية، مع تأمين متطلباتنا المعنوية والمادية على السواء. كانوا يأتون لزيارتنا مرة أو أكثر كل أسبوع. وقام الاخوة من (بافرا) بما يلزم، واعتبر الأستاذ (بافرا) ضمن مراكز ودوائر نشر النور حيث تشكلت مجموعة طيبة من طلبة النور فيها. وسبق لبعض الاخوة هناك وعرضوا على الأستاذ الهجرة إلى اميرداغ ليكونوا بقربه، ولكنه رفض ذلك قائلاً لهم: (كونوا سدّاً ومانعاً أمام الكفر المطلق، في أقصى الأطراف الشمالية للعالم الإسلامي).


أبطال إينَبولي

كان الأستاذ قد أطلق على (إينَبولي) اسم (اسبارطة الصغرى). ويكتب في رسالته: (لم يتركوا إقامتنا في (قسطموني) مدة ثماني سنوات بدون نتيجة مثمرة). وقال عن السيد (نظيف جلبي): (إن نظيف جلبي في ذلك الموقع المهم، وفي الحدود الشمالية للعالم الإسلامي، هو قطب الخدمات الإيمانية). وكان يدعوهم بـ (أبطال اسبارطة الصغرى). وهذا يعني أن للقائمين بالخدمة الإيمانية قطبٌ كما لأهل التصوف أقطاب هم على رؤوس أهل الولاية من الأولياء.


لقد أنقذتك كتاباتك

كانت تهمتنا المسندة إلينا هي خلق النفوذ للأستاذ (سعيد النورسي). وكانت لنا مرافعات ودفاع في هذا المجال. فقال في أثناء إحدى دروسه في (اسبارطة): (لقد القوا بهذا الشخص في السجن. بحجة قيامهِ بالدعاية لأستاذه. إلا أنه يكتب ويقابلهم بخمسين مرة أشدّ وأقوى مما يبغون).

ويستطرد هكذا أنقذتك كتاباتك.). لقد نشر الأستاذ جميع ما كتبناه في مرافعاتنا تلك.
بعد مكوثي في سجن (صامسون) شهراً، قررت المحكمة إطلاق سراحنا وتبرئتنا استناداً إلى النقض الصادر من محكمة التمييز. وكذلك صدرت البراءة بحق الأستاذ، وهكذا أُغلقت صفحة محاكمات (صامسون).


اهتمام الأستاذ بأهلنا

أمضيت شهراً في قريتي بعد خروجي من السجن. رجعتُ إلى (اسبارطة) مجدداً. إن رجوعي إلى (اسبارطة) لطفٌ إلهي. إن أهلي وأطفالي سعدوا بالحضور المعنوي للأستاذ في صبيحة أحد أيام العيد عندما كنتُ سجيناً، واهتمامه بأهلي بحضورهِ روحياً إلى قريتي يشبه ما يجري في الأحلام، وقوله لهم (لا تقلقوا، نحن دائماً مع بعضنا، نحن وحدة واحدة) وخروج أطفالي وجريهم خلفه دون أن يشاهدوه، كان بمثابة السلوى لهم في غيابنا وفي تلك الظروف الصعبة. كان يقول لي: (عليك أن تشكر ربك. إن أم أولادك شريكك في خدماتك). كما وكرر معي أكثر من مرة: (أنت لا تقلق، أنا سأرعى أولادك).


محاورة بديع الزمان مع البوليس الروسي

وفي هذا الشأن لا بد من ذكر أن الأستاذ قال أكثر من مرة، ويعني طالبه الفقير حيث كنتُ في السجن: (سأرسله إلى تفليس). وكما هو معلوم، فقد ورد في (تاريخ الحياة) نص المحاورة التي جرت بين الأستاذ وشرطي روسي:-

"قبل عشر سنوات ذهبت إلى "تفليس" وصعدت تل الشيخ صنعان، كنت أتأمل تلك الأرجاء أراقبها. اقترب مني أحد رجال البوليس فقال :

- بم تنعم النظر؟

قلت: أخطط لمدرستي!

قال: من أين أنت؟

قلت: من بتليس

قال: وهنا تفليس!

قلت : بتليس وتفليس شقيقتان.

قال: ماذا تعني؟

قلت : لقد بدأ ظهور ثلاثة أنوار متتابعة في آسيا، في العالم الإسلامي، وستظهر عندكم ثلاث ظلمات بعضها فوق بعض، سيُمزّق هذا الستار المستبد ويتقلص، وعندها آتي إلى هنا أنشئ مدرستي.

قال: هيهات ! إنني أحار من فرط أملك؟

قلت : وأنا أحار من عقلك ! أيمكن أن تتوقع دوام هذا الشتاء؟ إن لكل شتاء ربيعاً ولكل ليل نهاراً.

قال: لقد تفرق المسلمون شذر مذر.

قلت: ذهبوا لكسب العلم ، فها هو الهندي الذي هو ابن الإسلام الكفوء يدرس في إعدادية الإنكليز.

وها هو المصري الذي هو ابن الإسلام الذكي يتلقى الدرس في المدرسة الإدارية السياسية للإنكليز..

وها هو القفقاس والتركستان اللذان هما ابنا الإسلام الشجاعان يتدربان في المدرسة الحربية للروس..الخ.

فيا هذا ! إن هؤلاء الأبناء البررة النبلاء، بعد ما ينالون شهاداتهم، سيتولى كل منهم قارة من القارات، ويرفعون لواء أبيهم العادل، الإسلام العظيم، خفاقاً ليرفرف في آفاق الكمالات، معلنين سر الحكمة الأزلية المقدرة في بني البشر رغم كل شيء".(2)

كما وأمضيتُ سنة كاملة في الخدمة العسكرية في (صامسون) أيضاً. وكان الأستاذ يذكر حول ذهابي إلى (صامسون) وكأنه ذهابٌ إلى الحدود الروسية و(تفليس). وأثناء وجودي في (صامسون) وخلال تلك السنة، استمرت اتصالاتي مع (اسبارطة)، وكان من نصيبي القيام بطبع رسالة (الكلمات الصغيرة) و (ديوان الحرب العرفي) وكتاب آخر.


خدمات النور في أنقرة

في الأشهر الأولى من عام 1954، مكثتُ شهراً في (أفلاني) ورجعتُ إلى (اسبارطة) عن طريق (أنقرة) ووجدت فيها الأخ (جيلان) الذي كان مكلفاً من قبل الأستاذ للقيام بخدمة وقد قال له : (ترجعون مع صونغور). وفي أنقرة أيضاً وجدت مجموعة شباب النور –وعلى رأسهم الأخ عاطف أورال- يعملون بجدّ ونشاط وتضحية في تأدية خدماتهم للنور. ورغم أن الرسائل على الأكثر مخطوطة بالحروف العربية، إلاّ أن طبعها وتكثيرها بالحروف الجديدة جارية بشكل واسع. ومن ضمن هذه الرسائل أذكر (عصا موسى والكلمات الصغيرة ومرشد الشباب) مع بعض الرسائل القصيرة التي صدرت مؤخراً. وكان الاخوة يقيمون في بناية المدرسة النورية، يتداولون ويتعرفون ببعضهم، ويدرسون رسائل النور وحياة الأستاذ ومحاكماته وغيرها من المسائل والأمور التي تهم الخدمة النورية. كانت هذه الخدمات تنحصر على الأكثر في طبع ونشر رسائل النور في العاصمة وتعتبر من الخدمات الجليلة والكبيرة. وهكذا كانت هذه الخدمات والنشاطات مثال البذرة المغروسة التي نَبَتَتْ وأينعت وانتشرت على أرجاء العالم الإسلامي.


الزمن هو زمن الجماعة وليس زمن الأشخاص

"إن هذا الوقت هو زمن الجماعة وليس زمن الأشخاص، ومهما كان الشخص على درجة عالية من الذكاء والدهاء، وإذا لم يكن فرداً ضمن جماعة، فإن مصيره الخسارة والمغلوبية أمام الشخصية المعنوية للجماعة". في هذا القول الحكيم للأستاذ، دروس وحصص لكل فرد وللجماعات أيضاً. إن رسائل النور هي تفسير للقرآن الكريم بحسب مدارك هذا العصر. تفسّرُ المسائل القرآنية والإيمانية بأسلوب معقول ومهيأ للمدارك.

عندما شاهد أحدهم في أمريكا النشاط والرغبة العارمة لدى أحد طلبة النور هناك، لم يصدق ما يراه أو يسمعه منه، ويقول متعجباً: (كيف حافظت على نفسك هناك ولم تغرق؟) ويجيبُه ذلك الأخ الشاب النوري: (نحن جماعة خدمة)، واختصر الأمر في هذه العبارة القصيرة والوجيزة، ولم يقل: (نحن من جماعة النور وضمن دائرة الحلقة المسماة رسائل النور التي تمثل الحقائق القرآنية....)


الذي يؤدي الفرائض ويترك الكبائر في هذا الزمن يُدركُ الخلاص

إن طلبة النور الذين يشكلون مع بعضهم البعض كتلة متراصة ومتساندة، إنما يكسبون القوة والتأييد، ويوجِدون نقطة ارتكاز على النطاق الأعم والأوسع لجماعة أهل الإيمان والدين.
....( الذي يؤدي الفرائض ويترك الكبائر في هذا الزمن، يدرك الخلاص). فقول الأستاذ هذا، لم ينسه ذلك الأخ الشاب في أمريكا، واستطاع الصمود والمقاومة ولم يتراجع واتخذ الخدمة أساساً ولم يترك دراسة النور التي استمد منها القدرة الروحية وغذاء القلب والبقاء ضمن الجو المعنوي للنور.


تأليف رسالة (مفتاح عالم النور)

إن الرسالة القصيرة التي ألفها الأستاذ عام 1952 أثناء سفراته إلى (اسبارطة واسطنبول) فيها من الدروس العميقة التي تتحدث عن المعجزة الكبرى في محتويات وعناصر الهواء في الجو. يظهر –مثلاً- المعجزة الظاهرة في جهاز الراديو وانتشار موجات الصوت في الهواء....
هدف الأستاذ الكبير، كسر الكفر المطلق وتحطيمه.

نعم، لقد كان الهدف الأكبر للأستاذ كسر الكفر المطلق وتحطيمه ، وبناء سدّ أمام الموجة اللادينية. ومفهوم الكفر المطلق هنا، يعني عدم الإيمان بالله ورسوله وعدم الاعتراف بالمقدسات والتي ظهرت على شكل الحركة الشيوعية في ذلك الوقت. لقد أظهر الأستاذ أن هذه الموجة أثبتت وجودها ليس بالقوة المادية وإنما بتحطيم الروح المعنوية والفساد والفوضى وكسر المشاعر المعنوية والمقدسة في القلوب. وأمام هذه الموجة المدمرة، يركز الأستاذ على تعمير القلوب وإصلاح الروح المعنوية بأنوار الإيمان. ومن هذه التحذيرات ما جاء في قوله: (إن رسائل النور، بصفتها المنقذة والوسيلة لخلاص هذه الأمة والوطن المبارك، فإنني أظن أن الاستعانة بالمطبوعات ووسائل النشر والتدريس قد جاء أوانها لدفع غوائل هذه الموجة العارمة التي ابتُلِيتْ بها.)....

(الأولى: هذه الموجة العارمة التي جلبت البلايا والمصائب، تلك التي نشأت وتشكلت في الشمال وانتصرت على الديانة المسيحية وخلقت الفوضى والغوغائية وموجة عارمة من اللادينية والإلحاد. إن رسائل النور تستطيع أن تعمل وتقوم بواجب السدّ القرآني أمامها وتمنع استيلاءها على هذا الوطن.

(الثانية: وبهدف إزالة الاتهامات والاعتراضات الصادرة من العالم الإسلامي بحق أهل وأبناء هذا الوطن، فقد خطر على قلبي أن المطبوعات والنشر يمكن أن يكونا لسان التخاطب والتفاهم.).


يجب على السياسيين الوطنيين نشر رسائل النور

لقد طلب الأستاذ بصورة رسمية ضرورة القيام بطبع رسائل النور ونشرها لحماية الناس وأفراد هذه الأمة من أخطار هذه الموجة الإلحادية الطاغية. لقد حاول وجاهد كثيراً.... من أجل خلاص وحماية الملايين الأبرياء والأجيال الجديدة. لقد شاهد الأستاذ وشخّص مصدر الخطر الداهم. وكان يخاطب الحكام في المحكمة: (أيها السادة، لماذا تُشغلون أنفسكم معنا؟ أُؤكد لكم بصورة قاطعة إنني ورسائل النور لا يخطر على بالنا النزال معكم... لأن رسائل النور والعاملين الحقيقيين في صفوفها، يعملون ويجاهدون في سبيل إنقاذ الأجيال الآتية بعد خمسين سنة، وإنقاذ البلاد من بلاء وخطر عظيم محدق بهم...).


إن نشر رسائل النور من واجبات الشؤون الدينية

في عام 1950، وبعد إطلاق سراحه من سجن (آفيون)، طلب بصورة رسمية نشر وطبع رسائل النور من قبل هيئة الشؤون الدينية وكتب رسالة بذلك إلى رئيسها السيد (أحمد حمدي آقسكي)، وأرسل معي إليه نسختين من مجموعة رسائل النور مخطوطة بالحروف القديمة، ومستنسخة. ومعتبراً أن ذلك من صميم واجبات الشؤون الدينية للوقوف أمام تيارات الإلحاد واللادينية، ومتمنياً أن يُعتبر هذا الطلب ويؤخذ به من قبل وزارة المعارف أيضاً.


لم أر في العالم الإسلامي مثل الدرس والتوضيح والإثبات

في أحد الأيام من عام 1962 ذهبنا إلى زيارة الأستاذ (علي فؤاد باشكيل)(4) مع جماعة من طلبة الجامعة، وقرأنا موضوع " نكتة توحيدية في لفظ(هو)" الذي يبحث عن قدرة الله تعالى العظمى في محتويات ومركبات ذرات الهواء. قال الأستاذ (باشكيل) بعد برهة من التفكير: (هذا الدرس والتوضيح والإثبات، لم أجد في العالم الإسلامي مثل هذه الكتابات التي تربط مسألة التوحيد، ولم أقرأ مثلها. وإذا ما تُرجمت إلى اللغة الإنكليزية وبأسلوب رصين وقوي، وإذا ما قُرأت من الراديو ووسائل الإعلام، فإن الآلاف من الأجانب يدخلون في الإسلام.). ترى أين الدولة من رعاية نتاجات أبنائها؟ كان الأستاذ يؤكد دائماً: (هذه ليست لي، وإنما للقرآن، وترشحت من القرآن.) ويستمر معترفاً بفضل القرآن: (الفضل والمزيّة للقرآن، لي أيضاً حصّة منها، وهي الترجمة، ولكنني أصبحت المخاطب الأول. لنكن جميعاً أصحاب هذه الأدوية والعلاجات القرآنية، ولننشئ سداً أمام الإلحاد.)....

وفي محاكمات رسالة (مرشد الشباب) عام 1952، عندما رأى الأستاذ جماعات من الشباب يحضرون في القاعة، سأل عنهم، قيل له انهم طلاب الجامعة جاءوا لحضور محاكماتكم، تعجَّب كثيراً من هذا المنظر، ولم يهتم بهذه الجمهرة الغفيرة، وكأنّ ليس هناك أحدٌ في القاعة.

كأن الأستاذ يرغب قضاء بقية عمره في اسبارطة

وصلتني أخبار وأنا في سجن (صامسون) أن الأستاذ ترك (اميرداغ) واستقرّ في (اسبارطة)، وصادف ذلك عام 1953. وبذلك انفتحت صفحة جديدة من الحياة الثقافية والنشاط في خدمة الرسائل. كان يتمنى ومنذ سنوات، قضاء بقية أعوام عمره في (اسبارطة)، ويعتبر ذلك (غاية أحلامه). وقد أظهر هذه الرغبة في رسائلهِ إلى السيد (الصدّيق سليمان من بارلا) والسيد (الحافظ توفيق الشامي).

وفي ذلك العام، كتبتُ رسالة عاطفية من السجن، أبارك للأستاذ خطوته هذه، وقد أدرجها أستاذ النور في (رسالة الترياق). وبعد إطلاق سراحي، وبقائي في قريتي شهراً، ذهبت إلى اسبارطة والتحقتُ –بخدمة الأستاذ، وكان يرافقه كلٌّ من الاخوة (زبير وطاهري وجيلان وبايرام). وكان الاخوة (زبير وعبدالله وحسني) قد أمضوا ثلاثة أشهر في الحجز في سجن (اورفا) و(اسبارطة) في نفس الفترة التي أودعت فيها سجن (صامسون). وبعد إطلاق سراحهم، بقي الأخ (عبدالله) مع (حسني) في (اورفا)، وقدّم (زبير) استقالته من الوظيفة والتحق بخدمة الأستاذ في (اسبارطة). وقد تطرق الأستاذ في أحد رسائله إلى هذا الموضوع: (لقد قدّم زبير تضحية حقيقية، وجاء إلى نجدتي في وقت حرج كنتُ في أشد الحاجة إلى من يخدمني. وإلاّ لكنتُ أطلبُ مَن هو بنفس الطراز والأسلوب)..


عهدٌ جديدٌ في خدمة النور

كان الأستاذ في غرفةٍ لوحدهِ. وبقينا في صحبته وخدمته. لا يمكن تماماً شرح الأحوال والظروف والدروس لتلك الأيام. ولكنني أقول: إن الأستاذ، وفي أواخر أيام حياته، ومع هذه المجموعة من طلبته الذين شاركهم عيشه، قد فتح عهداً جديداً في خدمة النور امتاز بالتوسع والانتشار ومخاطبة الرأي العام الواسع. كان ذلك شرفاً كبيراً لنا ومرتبة عالية من التكريم، وفي نفس الوقت، عبئاً ثقيلاً من المسؤوليات والواجبات أُلقيت على كواهلنا وأتُمنّا عليها. وهذا ما كان يشير إليه الأستاذ عندما أفاد يوماً: (في الوقت الذي يقدر الرأس على حمل طنٍ من الأحجار، فإنّ العين لا تقدر على حمل قذىً. أنتم هنا وبصحبتي مثل العين على الرأس. سيئةٌ صغيرة منكم، أو حسنة لكم، كبيرةٌ!). إنني أعترف دائماً إنني لم أستطع تأدية تلك الخدمات المقدسة بالشكل الذي يليق بها. أرجو دعاءه وألجأُ إلى شفقتهِ وعطفه.

أجّرنا القسم العلوي من دار السيدة (فطنت هانم). كان بيتاً خشبياً ولكنه نظيف وصحي. كانت صاحبة الدار تسكن الطابق الأرضي، وإلى الجوار يسكن ابنها مع عائلته. وفي تلك الأوقات كان اخوة عديدون من طلبة النور يوجدون في (اسبارطة)، أمثال: (خسرو وطاهري وتنكَجي والخياط محمد أفندي)، وكذلك الاخوة (نوري بنلي وعثمان الكاتب وحلمي). كما ويوجد في البلدات القريبة اخوة النور. يتحدث الأستاذ عن (اسبارطة وبارلا) ويقول:

(إنني لن أنسى (بارلا) وإخوتي مثل (سليمان وتوفيق). أتخيل نفسي أحيانا كثيرة وأنا هناك معهم. كنتُ أرغب في قضاء سنوات عمري الأخيرة في ذلك البلد المقدس والمبارك، وأحياناً أرغب في السكن في (سنيركنت) أيضاً. ولكن الآن فإن الأمر ليس في خياري أو في يدي. إن (اسبارطة) مع جوارها وبكل ترابها وأحجارها هي مباركة عندي. أما (مدرسة الزهراء) في (اسبارطة)، فأتمنى وآمل بقوة أن تكون بمثابة جامعة لعموم الأناضول وكلية للعلوم لجميع العالم الإسلامي. ولهذا السبب أطلب أن يكون قبري في هذه الأرجاء.)

وفي الحقيقة والواقع، فإن تأليف (الرسائل) وتكثيرها ونشرها بدأت من هنا، وقام أبطالٌ من (اسبارطة) بتولي هذا الأمر بكل صدق وإخلاص، وأصبحوا مصدر فخر لكل أبناء الأناضول، وأصبحت (اسبارطة) حامية لرسائل النور وراعيتها. وكان الأستاذ يبدي رضاه من الحكم المحلي في اسبارطة، ويؤكد أن جميع المآسي والعذاب والتضييق الذي لقيه خلال 25 سنة الأخيرة في ظل الحكومة المركزية الظالمة، لم يمنعه من كيل المديح والرضا للحكومة المحلية هنا، بل وينسى كل ذلك الأذى من أجل هذه البلدة. وكان يدعو لخيرهم وتوفيقهم وخاصة في عهد الديمقراطيين. ويحثهم على تعمير وإصلاح التخريبات، وخدمة الأهالي.


أبطال اسبارطة

من الاخوة الأبطال الذين ظهروا في اسبارطة: (خسرو وطاهري، تحسين تولا ومصطفى كول وإحسان تولا وكوجوك علي) أيضاً من أولاد هذه البلدة. أكثر الذين دخلوا سجون (دنيزلي واسكي شهر) هم هؤلاء. عندما يجلبون الطعام إلى المسجونين، يضعون الرسائل والكتب أسفلها، ويسلمونها إلى من هم في الداخل، ويأتون بالرسائل الجديدة إلى الخارج، وهكذا كانت تستمر سلسلة الخدمة البريدية. وهم أيضاً الذين اتصلوا برئيس الوزراء (عدنان مندرس) وكانوا السبب في الحصول على الموافقة الرسمية على طبع الرسائل ونشرها بعد عام 1955. ندعو الله ونرجو منه الرحمة والمغفرة لمن توفاهم، ونُحيي من هم لا زالوا على قيد الحياة وكلُّ من ساهم معهم أو عاونهم.


إن رعاية سجين واحد يعادل ثلاثين فرداً في الخارج

كان يشملنا برعايته وشفقته وهي من طبائعه وعاداته. يمدحهم ويثني عليهم ويبرز خدماتهم ويشجعهم. تحدّث عن إيداعنا السجون وقال: (إن رعاية سجين واحدٍ داخل السجن يعادل ثلاثين فرداً في الخارج).


الموقع الممتاز والعالي للأستاذ

تقع غرفتنا في الجهة الشمالية من المسكن. ينشغل الأخ جيلان والأخ طاهري عادةً بالكتابة. ويجيب الأخ زبير على النداءات وطرقات الباب والزوار، ويهرع إلى الأستاذ عند سماعهِ الجرس. ويتولى الأخ (بايرام) على الأغلب أمور تهيئة الطعام وأشغال البيت الأخرى. ندرس صباحاً وعصراً دروساً تحت إشراف الأستاذ. ينادي علينا ويقرأ فصولاً من الرسائل أو المرافعات أو الملاحق ونتدارس فيما بيننا ونتناقش.

كنت استمع إلى أحاديثه مع زواره وبكل دقّة. واستغرق في شرحه في خشوع وانبهار وحالة روحية ووضعية معنوية غاية في الجمال....

في حلقة درس الأستاذ

عندما جئت من (صامسون) إلى (اسبارطة)، وجدتُ الأستاذ يقيم مع أربعة من طلابه، فدخلت بدوري في حماية أحضان الأستاذ الحنونة. وفي إحدى الأمسيات دخل الأستاذ إلى غرفتنا: (لقد وردني إخطار... سأدرسكم رسائلي المكتوبة بالعربية. وسأعلمكم اللغة العربية، وسنبدأ من الغد..) سُرِرنا جداً بهذه البشائر.

وفي صباح اليوم التالي، وبعد الانتهاء من التسبيحات، استدعانا إليه وجلسنا أمامه، وكان على فراشه ويغطي نصف جسمهِ كعادتهِ. سألنا: (هل ختمتم قراءة التسبيحات.) ثم بدأ قراءة مقدمة الترجمة التركية لـ (المثنوي العربي النوري) وبعدها قرأ مقدمة النسخة العربية، وأوضح معانيها. وهكذا بدأنا بالدرس الأول بالعربية. وعندما يدرّس ويشرح، كان يتطرق إلى نواحي عملية من حياته ويتحدث عن فعالياته على مختلف العهود والأدوار، ويضيف الكثير من مفاهيمه الروحية وأحواله القلبية وأفكارهِ وسلوكه. لقد أدركنا بعد مدة، أننا تلقينا دروسنا بقلوبنا وليس بعقولنا وأفكارنا فقط، وخرجنا إلى نطاق المنطق والتفكير من عالم الخيال. درسنا أولاً رسالة (قطرة) التي تتحدث عن التوحيد والإيمان....

يذكر شقيقه المرحوم (عبدالمجيد أفندي) خاطرة له مع الأستاذ في شرخ شبابهم ويقول: (جلسنا يوماً على صخرة ونحن في مرحلة الفتوة. وضع يديه على ساقه ورفع رأسه إلى السماء.. ثم قال : (يا عبدالمجيد.. كيف بالإنسان وهو ينظر إلى هذه الكائنات ثم تبقى لديه ما لا يعلمُه؟).


لقد عاش سعيد النورسي ثلاثة أدوار

هذا المفكّر الكبير يتحدث عن الوجود والكائنات في رسالة (الآية الكبرى)، ينظر ويشاهد ويذكر نفس الحقائق في رسالته (قطرة). يقول (عثمان يوكسل سردن كيجدي) عن الأستاذ: (إن (سعيد النور)، شيخٌ فانٍ عاش ثلاثة أدوار، وخبرَ أيامها. هذا الشيخ الكبير عاش عهود (إعلان الدستور- المشروطية)، والاتحاد والترقي، ثم عهد الجمهورية. هذه العهود حبلى بالتغييرات والاضطرابات الكبرى، والانهيارات والسقوط والانقلابات والثورات، ولم يبق إلاَّ وتهدم وتقوض.

ما عدا شخصاً واحداً لا زال واقفاً على رجليه...

رجُلٌ مثل سلاسل الجبال، ووقف أمام أشرار هذه العهود وجعل من صدره ستراً لردهم وهو ينادي لفظة (الله) ويردد اسم النبي- صلى الله عليه وسلم - ولا غير. لم ينعوج أو يتراجع أمام أي ظالم... ولم يغلبه أي عالم... رأسه شامخ مثل جبل (آرارات) الواقف بغرور... إرادة عجيبة... وذكاء كحد الصواعق... ذلك هو (سعيد النور). لم تستطع أعواد المشانق التي نصبت له ولا الإبعاد والنفي والتغريب من ثنيهِ ولا الفتّ من عزائمه، وإنما وقف أمامهم بالقوة المتناهية الصادرة من إيمانه.

قرأنا دفاعاته أمام المحاكم. إنها ليست مجرد دفاعات عن نفسه. بقدر ما هي دفاع عن الدعوة الكبرى. إنها أمثلة على المتانة والجلادة والذكاء والجسارة.


نذهب مع الأستاذ إلى بارلا

باشرنا برسالة (إشارات الإعجاز) بعد الانتهاء من (المثنوي)، وبينما نداوم على الدروس، ذهبنا مع الأستاذ إلى (بارلا). وبعد أن اصطحب معنا الاخوة (جيلان وزبير)، عبرنا بحيرة (اكيردر) ووصلنا إلى (بارلا). كانت المرة الأولى أذهب إلى (بارلا) مع أستاذنا ونحن في (زورق). بقي الأخ (بايرام) في الحراسة في (اسبارطة). شاركنا قافلة من العاملين في الحقول مسيرتهم على الدواب، واندمجت أرواحنا معهم، ثم فارقنا بعضهم ومضينا في طريقنا، وركب أستاذنا على دابّة ونحن متوجهون إلى (بارلا)، وجميع العاملين ملتفون حوله، يقود أحدهم الدابة، والآخرون يستمعون إليه من الطرفين، وهو يحاورهم ويسأل عن أحوالهم وشؤونهم ويستمع إلى أدق تفاصيل حياتهم.


الذكريات الأولى من (بارلا)

عندما كنّا في (بارلا)، كان الأستاذ يتذكر ويتحدث غالباً عن ذكرياته أثناء تأليفه وكتابته الرسائل. يتذكر إقامته عندما نفي إلى (بارلا) أول مرة، وسكناه في دار السيد (المهاجر الحافظ احمد.)، ثم انتقل إلى حيث عاش لوحده في المسكن الذي سماه (المدرسة النورية). كان يخرج للتجوال في الحقول والبوادي، وفي يوم مطير عند عودته إلى مسكنهِ (يقترب منه (سليمان افندي) ويسأله فيما إذا كان في حاجة إلى عون. وهكذا يتبعه من خلفه، ويتولى بعد ذلك خدمته ورعايته. وكان له ابنتان أصبحتا من طلبة النور المخلصين، واستمرتا في تدريس وخدمة رسائل النور وتحفيظ القرآن للناشئين. وقد توفي العديد من أصحابه القدماء أمثال (مصطفى جاويش والحافظ احمد) وكان الأستاذ يسأل عنهم ويتابع أخبار الذين لا زالوا على قيد الحياة مثل (الحاج بحري والنجّار اسطة محمد).


مؤتمر حزب الشعب وموقف الأستاذ

يتحدث (اسطة محمد النجار) عن إحدى ذكرياته: (كنتُ أداوم إلى المسجد الذي يقصده الأستاذ. انعقد مؤتمر(حزب الشعب) في أحد الأيام، وأعلم الدلاّل الناس عن موعد المؤتمر. لم أستطع حضور المسجد ذلك اليوم لانشغالي بأعمال خاصة. وعندما لا يجدني الأستاذ في الصلاة يسأل بقلق: (أين اسطة محمد؟). يجيبه أحد الحضور، (ربما ذهب إلى المؤتمر)، ويغضب الأستاذ كثيراً. وعندما رآني في موعد الصلاة اللاحق، صبّ عليّ غضبه وطلب مني عدم حضور الجماعة وعدم الاتصال به. وعندما تحقق لديه عدم حضوري المؤتمر قال (لقد تحققتُ من الأمر، ووجدت انك لم تذهب). ولا زال (حزب الشعب) وإلى حد الآن مسؤول عن الأذى والضرر الذي أصاب الإسلام عندما وقف حائلاً أمام الدين بإجراءته ومساندته جبهة اليسار والملحدين، وكان من نتيجته فقدان الملايين إيمانهم.


اهتمام الأستاذ بطلبته القدماء

عندما ذهب الأستاذ إلى (بارلا) ومرّ في طريقه على (بدره)، يقرأ الفاتحة والدعاء على روح المرحوم (صبري المعروف بالسنترال). وكان يهتم كثيراً بطلابه القدماء، ويتابع أخبارهم ويتصل بأولادهم ولم يكن ينسى أحداً منهم ويديم الرابطة الروحية القديمة.
وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان من عام 1954، وبعد أن أمضينا في (بارلا) ثلاثة أشهر، جاءنا السيد (عبدالله جاووش) من بلدة (إسلام كوي) برفقة عماله. وجلب معه في صناديق، الرسائل التي استنسخها الاخوة في (أفلاني) والرسائل التي كتبت إلى الأستاذ. وعندما فتح الأستاذ تلك الرسائل، وجد ضمنها الرسالة التي كتبتها ابنتي (شريفة)!، عند ذلك أمرني الأستاذ بالذهاب فوراً إلى (أفلاني) وقال: (أفلاني، تطلب مني أن أبعثك إليها)، وهكذا أرسلني إلى قريتي. فارقته وأنا في ألم كبير، وأقول مع نفسي (لقد مكثتُ معه ثلاثة أشهر، وها أنا لا اقدر على تمضية العيد معه!). رجعت بحمد الله إلى اسبارطة بعد العيد بفترة دون أن يمانع أحدٌ من أهلي، ولم يكن هناك من يمانع أصلاً....).


وصية الأستاذ لمصطفى صونغور

لقد كتب الأستاذ النورسي، وابتداءً من عام 1946 وحتى عام 1959، وصاياه بمختلف الوسائل والأشكال. وحيث إن الأخ (مصطفى صونغور) من: (وكيلي المطلق ووريثي) حسبما قال الأستاذ بديع الزمان وضمن الذين عيّنهم وخصّهم الأستاذ من طلبته، فقد وردت صيغ تلك الوصايا ضمن المجلد الأول والثاني من (ملاحق اميرداغ).

لقد كتب الأستاذ وصيته الأولى في عام 1946. وبعد أن جرى نشر، (ملاحق اميرداغ) وقبل أن يرسل الرسائل إلى (أنقرة)، أضاف (اثني عشر اسما) وعلامة النجمة (*)، وبخط يده وعلى الحاشية ثبَّتَ (12) اسماً. وحسبما أعلم الأخ (مصطفى صونغور)، فإن اسمَي (مصطفى) التي وردت، يخص (مصطفى آجت) والثاني (مصطفى كول).

ومن المعروف أن الذين هم على قيد الحياة من هؤلاء، كلٌّ من: (مصطفى صونغور، ومحمد قايالر، وحسني بايرام، وبايرام يوكسل، وعبدالله يكين، وأحمد آيتمور، وسعيد اوزدمير التيللوي، وسيد صالح اوزجان.


الوصية
(أعزائي واخوتي بصدق وورثتي!

(حيث إن الأجل مجهول ومستور، فإن كتابة الوصية من السُنّة. إن متروكاتي وكتبي الخاصة التي هي من رسائل النور ومجموعاتي التي جُلّدت بصورة جميلة، وكافة ما أملكه من أشياء أخرى، فإني أوصى بها إلى اخوتي الأبطال (الاثني عشر(5) وعلى رأسهم هذه الهيئة العاملة "للنور" و"الورد" خسرو وطاهري).

(اتركها لهؤلاء، حتى إذا ما حضر أجلي وأمر الحق) لكي تُستَعملَ من قبل هذه الأيادي المباركة في الخدمة النورية والإيمانية نيابة عني.

(اخوتي لا تقلقوا من جراء هذه الوصيّة: إنني أكتب هذه الوصية من جراء الدسائس ومحاولات القتل والتسميم التي جاوزت تسع مرات من قبل المنافقين العاملين في الخفاء، لا يأخذنكم القلق، إن العناية الربانية والحفظ الإلهي مستمر.) ..الباقي هو الباقي..

أخوكم/ سعيد النورسي

التدرج التاريخي للذكريات

-هل بالإمكان ذكر التدرج التاريخي لتعرفكم برسائل النور وزياراتكم إلى الأستاذ، وباختصار؟.
- سمعت برسائل النور وبالأستاذ وللمرة الأولى عام 1943 في المعهد الريفي في (كول كوي) التابعة إلى (قسطموني). حصلتُ على المؤلفات عام 1946. وكانت الملاحق قد بدئ بكتاباتها. وكان المعلم المتقاعد السيد (أحمد فؤاد) من (أفلاني) الذي زار الأستاذ حظي بدعائه وتوجيهاته. وكتب واستنسخ جميع كليات رسائل النور أثناء ممارسته التدريس. وكان والده من معلمي السلطان عبدالحميد. وكذلك الحال بالنسبة إلى السيد الحافظ (بيرام أفندي) الذي زار الأستاذ أثناء وجوده في قسطموني وتلقى توجيهاته، وهو والد الاخوة (حسني ويلماز). إلى جانب السيد المبارك (مصطفى عثمان) الذي كان قد استنسخ الملاحق أسبوعياً، ويرسلها إلى (أفلاني) وكنا نتسلمها.. كان هؤلاء هم السبب في معرفتي بالنور.


محاكمات آفيون وحبسي

في بداية حبسي في سجن (آفيون) عام 1947، جرى تفتيش بيتي وأخذوني موقوفاً إلى (صفرانبولي). صودرت كتبي وأُرسلتُ إلى (آفيون) للتحقيق معي من قبل الادعاء العام.
-في حزيران عام 1948 وبداياتها ذهبتُ إلى (آفيون) لحضور محاكمات الأستاذ سعيد النورسي بصفة مستمع، وزرتُ الأستاذ، وسِرتُ برفقته من المحكمة إلى بناية السجن. لن أنسى ما حصلتُ عليه من بهجة وسعادة، ثم أخذني الشرطة للتحقيق في حضور المدعي العام.

سألني المدعي العام: (هل قرأت الهجومات الست؟)، أجبتُه: (نعم قرأتُها). ثم قال لي: (ارجع أنت إلى بلدتك، وسوف أستدعيك لاحقاً). قلتُ له: (لا داعي لتحملكم الأتعاب. إنني موجود هنا، خذوني الآن.). ولكنه لم يفعل!.

-في يوم 23/آب أغسطس/ 1948، جئت إلى المحكمة، وذهبت فوراً إلى السجن. أطل حضرة الأستاذ من شباك غرفته، والتقى ناظرانا. رَمى إلينا بنقدٍ قدره ليرة واحدة، قائلاً: (اشتروا فحماً.). لم نحصل على الفحم وإنما اشترينا أنواعاً من الفواكه المتوفرة، (وأرسلناها إلى الأستاذ. نادانا الأستاذ من خلف قضبان الحديد التي تغطي شباكه (إنني اعتبر عملكم هذا معادلاً لخدمة عشرين سنة).

سمعتُ وأنا في طريق عودتي خبر حصول زلزال كبير. أحسست بضيق من جراء ما يتعرض له الأستاذ والطلبة من ظلمٍ واستبداد، وصببتُ عواطفي في رسالة موجهة إلى الأستاذ، وأرسلتها إلى عنوان الأخ (خسرو التين باشاق) الموقوف في سجن (آفيون). على أثر ذلك طلب المدعي العام استدعائي إلى (آفيون)، وأُرسلت إلى السجن في (صفرانبولي)، ووضعوني مع السيد (أمين تكين آلب) الذي جرى توقيفه مثلي.

أرسلونا إلى (آفيون) بعد مرور شهر، وبرفقة أفراد من الجندرمة. كان الاخوة في (آفيون) يترددون آنئذٍ على فندق (أنقرة). ذهبنا نحن أيضاً إلى هناك. وضعنا أغراضنا هناك، وذهبنا إلى صلاة الصبح في المسجد. ولدى عودتنا، رأينا المقهى الذي تحت الفندق يزدحم بالاخوة الذين جرى توقيفهم، وعندما سألنا عن الموضوع، قيل لنا: (لقد جرت المحاكمات أمس، وصدر الحكم بالسجن ستة أشهر على الاخوة. وحيث إننا كنّا موقوفين ومنذ عشرة أشهر فقد أُخلى سبيلنا. غير أنهم حكموا على الأستاذ بعشرين شهراً، والأخ (أحمد فيضي) بـ 16 شهراً، وعلى الأخ (جيلان) بثلاث سنين. وكان الأخ (زبير) في الخارج وادخلوه السجن، أما (إبراهيم فاقازلي) فقد حضر لتوّه). وفي نفس اليوم، تم التحقيق معنا، وأودعونا السجن.

أُخلي سبيلنا بعد انقضاء أربعة أشهر، وكنتُ موقوفاً شهراً واحداً وقد صدر الحكم عليّ بخمسة أشهر لكوني لم أتجاوز (21) من عمري. ورغم أن محكمة التمييز قد نقضت الحكم ، غير أنهم لم يطلقوا سراح الأستاذ، وبقي إلى تاريخ 20/ أيلول/1949 حيث أخلى سبيله. جئنا إلى (آفيون) في 7 أيلول مع (الصائغ صبري)، وأمضيتُ عشرة أيام مع الأستاذ بعد خروجه وأقمتُ في الدار الذي أجّره الأخ (زبير) وبرفقة الأخ (ضياء) وفي 30/أيلول/1949 توحدتْ أضابيرنا مع أضابير الأستاذ وطلبة النور. ثم أرسلني الأستاذ ومعي والدي إلى (ازمير).

-في شهر كانون الثاني 1950، ذهبنا مع بعض أقاربي إلى (اميرداغ)، لزيارة الأستاذ والإقامة إلى جانبه. ذهبتُ إلى رئاسة الشؤون الدينية أثناء مروري (بأنقرة)، وزرتُ رئيسها (أحمد حمدي آقسكي)، وأعلمته عن نيتنا زيارة الأستاذ، وكان الأستاذ ينوي إرسال نسختين من مجموعات الرسائل إليه، وطلب حضور الأخ (خسرو) من (اسبارطة)، ولكن الحظ كان من جانبي، وأرسلني الله سبحانه، لهذه الخدمة.

-بعد أن أمضيت عشرة أيام في (أنقرة) ذهبت إلى (اميرداغ) حيث بقيتُ في خدمة الأستاذ مدة عشرة أيام وأقيم في غرفة صغيرة في الفندق. ثم أرسلني الأستاذ إلى (أنقرة) مجدداً، ومنها ذهبت إلى قريتي (أفلاني)، وبعد قضاء فترة هناك رجعت إلى خدمة الأستاذ في (بارلا) مع الأخ (زبير وضياء) ولمدة أربعة أشهر. وفي خريف عام 1950 أرسلني الأستاذ إلى (أنقرة)، والتحق بي هناك الأخ (جيلان) الذي رجع من (اورفا) وبقينا معاً وجاءنا الأخ (حسني بايرام) بناءً على أمر الأستاذ.
-في عام 1951، وبناءً على أمر الأستاذ، ذهبت مع (جيلان) إلى (اسكي شهر). وهناك تمّ تكثير ونشر الرسائل التالية: (الشعاع الثاني، الخطبة الشامية مع ذيولها، والحجّة الزهراء).

-جاء الأستاذ وبصحبته (محمد جالشقان) إلى (اسكي شهر) يوم 1 محرم/ 1371هـ، (أيلول عام 1951). بقيت في خدمته حوالي 20 يوماً، وأرسلني إلى (أنقرة).
-بقينا في (أنقرة) عام 1952 بناءً على أمر أستاذنا. كنتُ أتردد على (أفلاني) بين فترة وأخرى ولمدة 5-10 أيام.


قضية صامسون والحبس

رجع الأستاذ بعد محاكمات (مرشد الشباب) من (اسطنبول) إلى (اميرداغ) وبعد مدةٍ قضيتها في خدمته، أرسلني مجدداً إلى (أنقرة) حيث مكثت فيها بضعة أشهر. كنتُ أبعث كتابات إلى مجلة (بويوك جهاد) بداية عام 1953.

وكان ذلك سبباً لتوقيفي يوم 19/شباط. بقيت في سجن أنقرة مدة شهر مع المرحوم (كمال بيلاو اوغلو) وفي الردهة التاسعة، ثم جرى سوقي إلى سجن (صامسون). لأقضي مدة محكوميتي البالغة 18 شهراً، ولكن محكمة التمييز نقضت القرار، وخرجتُ من سجن صامسون بعد (11) شهراً من الحجز، حيث أُخلى سبيلي.

- وفي عام 1953 حيث كنتُ في سجن (صامسون)، رحل الأستاذ إلى مدينة (اسبارطة) وسكن في بيت مؤجر له، ومعه الاخوة (طاهري وزبير وجيلان وبايرام). أمضيتُ شهراً في قريتي، وبفضل الله تعالى وهمة دعوات الأستاذ، رجعتُ إلى (اسبارطة) والتحقت بزمرة القائمين بخدمته.


السنوات المنوّرة التي أمضيتها مع الأستاذ

- بعد خروجي من سجن (صامسون)، وابتداءً من بدايات العام 1954، التحقت بخدمة الأستاذ ومرافقته مع الاخوة (زبير وطاهري وجيلان وبايرام)، وكانت أجمل وأحلى الذكريات والخواطر التي لا تنسى ونحن في هذه الرفقة المباركة، وأبرزها دراستنا لرسائل (المثنوي العربي النوري، وإشارات الإعجاز) باللغة العربية. ولعلني أحاول الكتابة عن هذه الفترة بصورة مفصلة ومستقلة إذا ما تيسرت لي الأسباب.

غير أنني أستطيع أن أقول: كان بداية عام 1954 تصادف موسم الشتاء القارس البرودة. شرّفنا الأستاذ وجاء إلى غرفتنا، وقال وهو لا يزال واقفاً:- (لقد أخطرتُ. سأعلمكم اللغة العربية. وأدرّسكُمْ (المثنوي العربي النوري). نبدأ اعتباراً من صباح غد.).

وفي الصباح، جلسنا في غرفة الأستاذ أمام سريره، كل من (طاهري وأنا، وجيلان وبايرام وزبير)، نقرأ (المثنوي العربي النوري) ومقدمتها باللغة التركية. وهكذا استمرت الدروس. ويقول أستاذنا (إنّ الوقت قصير جداً. يجب الابتداء فوراً من الحقائق. انتم تستطيعون دراسة القواعد والصرف والنحو فيما بينكم.). واستمرت دروسنا إلى فصل الربيع. ثم ذهب الأستاذ إلى (بارلا) بصحبة الاخوة (زبير وجيلان). وداومنا على الدروس العربية هناك. وبعد الانتهاء من (المثنوي) باشرنا بدراسة (إشارات الإعجاز). وقبل ليلة القدر بيوم، أرسلني إلى (اسبارطة) ومنها إلى (أنقرة) عرجتُ منها إلى بلدتي لمدة، ثم رجعت إلى أستاذي وعاودتُ حضور الدروس. ثم ذهب الأستاذ وبرفقته (زبير) إلى (اميرداغ)، وبقيتُ في (اسبارطة) مع (جيلان وبايرام) وتيسر لنا استنساخ وتكثير (إشارات الإعجاز).

وكان من نصيبي- بتسهيل من الله- أن أرافق الأستاذ بقية سنوات حياته. وفي هذه الفترة (1955-1956) أكملت خدمتي العسكرية في (صامسون). في هذه الفترة، جاء الأخ (حسني) من (اورفا) والتحق بخدمة الأستاذ ورسائل النور، وأنجز خدمات جميلة ولطيفة جداً.

الهوامش

(1)الشهود الأواخر (شهادات ومشاهدات عن بديع الزمان سعيد النورسي) ج 4 ،نجم الدين شاهينر، ترجمة : مأمون رشيد عاكف، دار النيل للنشر ، القاهرة 2012 .

(2) أحمد أمين يلمان. صحفي مخضرم من طائفة "الدونمة"، لعب دوراً تخريبياً خطيراً في الحياة الصحفية والفكرية والسياسية في تركيا، عرف بعدائه الشديد للإسلام، دعا في أعقاب الحرب العالمية الأولى إلى قيام الولايات المتحدة الأمريكية بحكم تركيا. وكتب مقالات عديدة في مزايا دخول تركيا تحت الاحتلال الأمريكي. أصدر جريدة "طان" ورأس تحريرها.

(3) صيقل الإسلام - السانحات /371

(4) الدكتور علي فؤاد باشگيل 1893-1969م درس الحقوق وحصل على شهادة الدكتوراه من فرنسا سنة 1923 ورقي سنة 1939 إلى درجة "اوردنياريوس بروفسور"، ويعتبر من مؤسسي كلية الحقوق في أنقرة، شغل مناصب علمية منها عميد كلية الحقوق وعضو محكمة لاهاي الدولية، اشترك في المؤتمر الإسلامي في كراچي سنة 1960م. انتخب نائباً عن مدينة صامسون بعد خروجه من السجن سنة 1961م كان أقوى المرشحين لرئاسة الجمهورية، لمكانته العلمية المرموقة ورصيده الشعبي الكبير، وكان فوزه مؤكداً ولكن القادة العسكريين أجبروه على الانسحاب وهددوه بالتصفية الجسدية. توفي 1969. ومشى في جنازته عشرة آلاف من الطلبة الجامعين.

(5) " اخوتي عبدالمجيد وزبير ومصطفى صونغور وجيلان ومحمد قايا وحسني بايرام ورشدي وعبدالله واحمد آتيمور وعاطف وتللوي سعيد ومصطفى ومصطفى وسيد صالح" . [ملاحق اميرداغ].


المراجع

ar.dunyatimes.com

التصانيف

سيرة ذاتية  أدب  تراجم  شعراء   العلوم الاجتماعية