غيَّب الموتُ صباح اليوم الثلاثاء الخامس والعشرين من المحرَّم سنة 1441 هـ (24/ 9/ 2019 م) بمشيئة الله الحكيم سبحانه، علمًا جليلًا من أعلام الأمَّة الإسلامية الكبار الذين آثروا العُزلةَ على الشهرة، والعلمَ على الزواج، ونأوا بأنفسهم عن الدنيا وزُخرفها، وكان نسيجَ وحدِه في علمه وتحصيله، وذكائه وبديهته، ومواهبه وإبداعه، وحافظته وذاكرته، وهمَّته وعطائه، واستقامته وطاعته، وجِدِّه وحزمه.
إنه الشيخ الجليل الدمشقي المعمَّر محمد سعيد الطنطاوي(1) نابغة المربين وأديب الفيزيائيين، وآخر الباقين من أشقَّاء الشيخ فقيه الأدباء الألمعيِّ علي الطنطاوي رحمه الله. وكانت وفاته عن قرابة قرن كامل من الزمان (98 سنة) في مستشفى فقيه بمدينة جُدَّة، تغمَّده الباري بعفوه ورحمته، وأكرم نزُله وأعلى مقامه، وأحسن عزاء الأمَّة فيه، وعزاء آل الطنطاوي الكرام، وعزاء طلَّابه وأصحابه وأحبابه، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ودونكم سيرةً موجَزة للشيخ كنت كتبتُها قبل سنوات(2):
اسمه وصفته:
هو محمَّد سعيد بن مصطفى بن أحمد الطنطاوي، ولد بدمشق سنة (1343هـ/ 1924م)(3): من كبار المربِّين، وألمع مدرِّسي الفيزياء والكيمياء والرياضيات، عالم فقيه، وداعية خطيب، وأديب شاعر، وجَدِل قويُّ الحجَّة، ومثقَّف واسع الاطِّلاع وافر المحفوظ، مع ذاكرةٍ واعية مُسعفة، وبديهة حاضرة متَّقدة، اشتَهَر بالجرأة والصَّرامة، والنُّبل والشهامة.
وأحد أذكياء الدنيا وأفراد الدهر في الزهد والورع والعبادة، والأخذ بالعزائم، واجتناب الرخص.
ومن رواة الشعر وحفَّاظ عيونه وروائعه، وصاحب أسلوب فذٍّ مُطرب في إلقائه، وقدرة فائقة على ارتجاله ونظمه. وبلغ منـزلةً عالية رفيعة في الإحاطة بالتاريخ الإسلاميِّ وكأن أحداثه ماثلةٌ بين عينيه، لا يغيب عنه شاردةٌ منها ولا واردة.
نشأته ودراسته:
توفي والدُه الشيخ مصطفى الطنطاوي وهو رضيعٌ في شهره الثالث، وتوفِّيت والدتُه رئيفة بنت أبي الفتح الخطيب الحسَني شقيقة الأستاذ الكبير محبِّ الدين الخطيب وما يزال طفلًا في السابعة، فنشأ في ظلِّ أخيه الأكبر الشيخ علي الطنطاوي ورعايته.
درس المرحلة الابتدائية في مدرسة مسجد الأقصاب بحيِّ السادات، وبعد حصوله على شهادتها ترك مقاعدَ الدراسة، ليتفرَّغ للقراءة والمطالعة والحفظ، وحصل على شهادتي المرحلتين المتوسِّطة والثانوية في دراسة حرَّة.
انتسب إلى قسم الفيزياء والكيمياء والرياضيات في كلية العلوم بالجامعة السورية (جامعة دمشق) أول افتتاحها(4) سنة 1946م، وكان من طلَّابها المبرِّزين علمًا وسلوكًا، ومن زملاء دراسته فيها سيِّدي الوالد الفيزيائيُّ المربِّي أحمد ذو الغنى رحمه الله.
وقرأ النحو على العلَّامة الأصولي الشيخ د. مصطفى الخَنّ رحمه الله، مع أخويه الشيخ عبد الرحمن الباني والأستاذ رشاد زَمْرِيق، وكانت المجالسُ في غرفة الشيخ مصطفى بجامع الدقَّاق في حيِّ الميدان، ولم يقرِّر عليهم كتابًا بعينه، ولكنه كان يحضِّر مادَّة علمية غنية بالفوائد، ويلقيها بترتيب وتنظيم دقيق، وأسلوب حسن واضح.
في ميدان التعليم والدعوة:
بعد تخرُّجه اشتغل بالتعليم في مدرسة التجهيز الأولى (جودة الهاشمي)، وكان له أثرٌ عميق في دعوة طلابه إلى الالتزام والأخذ بمعالي الأمور، وقلَّما يدخل غرفة المعلِّمين؛ إذ يهتبل أوقاتَ الاستراحة في توجيه تلاميذه والنصح لهم، ومحاورتهم في قضايا الفكر والعلم. وكان ينتخب منهم من يتوسَّم فيه الخير، ويربيهم تربيةً إيمانية عملية، باصطحابهم في رحلات أسبوعية إلى المتنـزَّهات القريبة من دمشق، والقرى المجاورة، سيرًا على الأقدام أو ركوبًا على الدرَّاجات، ليُمضوا الوقت معًا في تدريب ورياضة، وعبادة وطاعة، ووعظ وتوجيه، وكان يجري لهم دوراتٍ علميةً وتربوية يدرِّسهم فيها الفقه والتفسير والحديث والسيرة.
وكان لنشاطه آثارٌ بيِّنة محمودة فيمَن حوله، فكان يحثُّهم على الجمع بين الجِدِّ في الدراسة والدأب في تحصيل العلم الشرعي، والتزام الإسلام التزامًا في الظاهر والباطن، والمحافظة على أداء الصلوات مع الجماعة في المسجد، والاهتمام بقيام الليل، ويرغِّبهم في اتِّباع الهدي النبويِّ بإطلاق اللِّحى، فانتشرت هذه السنَّة البهيَّة في صفوف الشباب والدعاة في وقتٍ كانت فيه مهجورةً ولا تحظى بكثير اهتمام.
وكلِّف التدريسَ بدار المعلِّمين بدمشق، وفي زمن الوحدة السورية المصرية سنة 1959 م نُقل إلى طَرَطُوس، وحين طُلب إليه المشاركة في تصحيح أوراق الاختبارات أبى أن يشاركَ في جوِّ الاختلاط بين المدرِّسين والمدرِّسات، حتى اضطرُّوا إلى السماح له بالعمل على حِدةٍ في قاعة مستقلَّة.
نشاطاته وآثاره:
وهو أحد الثلاثة الذين أحيَوا مسجدَ جامعة دمشق، وأسهموا في نهضته العلمية والدعوية، وتولَّوا إدارةَ لجنته والإشرافَ على أنشطته، مع أخويه د. محمد بن لطفي الصباغ رحمه الله، ود. محمد هيثم الخيَّاط عافاه الله. وأحد من تولَّى خَطابة المسجد مع عدد من كبار رجالات الإصلاح والدعوة في الشام، على رأسهم: علي الطنطاوي، ومصطفى السِّباعي، وعصام العطَّار.
ونُشر له عددٌ من البحوث في سلسلة الرسائل التي أخرجتها لجنة المسجد، منها:
(مأدبة الشيطان قذرةٌ مسمومة فاحذَرها وحذِّر منها!)، و(هل في الشرِّ خير؟)، و(من الظُّلمة إلى النور)، و(عزُّ الدين القسَّام)، و(عبد الحكيم الأفغاني)، و(14 ربيع الأوَّل)، و(شمس الأئمَّة السَّرَخْسيُّ ذاكرةٌ مدهشة ومكتبةٌ متنقِّلة)، و(سعيد بن المسيَّب)، و(صورٌ ومواقفُ قُبَيل المعركة)، و(صفحاتٌ من سيرة الفاروق)، و(محمَّد عبده)، و(جمال الدين الأفغاني).
وانتدبه شيخنا العلَّامة المربِّي عبد الرحمن الباني المفتش الاختصاصيُّ لمادَّة التربية الإسلامية بوِزارة المعارف السورية إلى تأليف عددٍ من مقرَّرات مادَّة التاريخ الإسلاميِّ لطلَّاب المعاهد والثانويات الشرعية، فيما أُسميَ (أعلام المسلمين)، وأسهم الشيخ عليٌّ الطنطاوي في وضع المنهج.
وحقَّق كتاب (رحلة الشتاء والصيف) لمحمد بن عبد الله الحسيني (ت 1070 هـ) من منشورات المكتب الإسلامي.
جُرأته وعزيمته:
للشيخ سعيد الطنطاوي مواقفُ جريئةٌ مشهودة تدلُّ على قوَّة إيمانه وشدَّة يقينه، وعلوِّ همَّته وعزيمته، وصلابته في الحق. من ذلك أن مدير التعليم استدعاه يومًا معترضًا على بعض تصرُّفاته؛ كرفضه الاختلاط ونحو هذا، فجادله جِدالًا وحاجَّه حِجاجًا، فلمَّا انقطعت حيلةُ المدير ألزمه بقرارات وِزارة التربية إلزامًا، فما كان من الشيخ إلا أن أخرج مصحفًا من جيبه وقال بشموخ واعتزاز: "هذا هو القانونُ الوحيد الذي أسمع له وأطيع، وما عداه فتحت قدمي".
وعلى إثر ذلك نُقل تأديبًا إلى المجلس الأعلى للعلوم والآداب، فالتزم مكتبةَ المجلس وأكبَّ على ما فيها من مصنَّفات وأسفار يغرف من فوائدها ويعُبُّ من نوادرها، ورُبَّ ضارَّة نافعة!
ومن مواقفه المذكورة التي تدلُّ على قوَّة شَكيمته أنه دخل في أوَّل العهد بالوحدة بين القطرين السوري والمصري مدرسةَ التجهيز ففوجئ بتمثال كبير قد أقيم للرئيس جمال عبد الناصر في بَهو المدرسة، فما كان منه إلا أن مضى إليه مسرعًا ورفسه رفسةً أردته حُطامًا، ثم صرخ بأعلى صوته: {إنما الخمرُ والمَيسِرُ والأنصابُ والأزلامُ رِجسٌ من عمل الشَّيطان}، ولا يخفى ما في فَعلته من جَراءة في ظلِّ نظام استبدادي مَقيت!
في بلاد الحرمين:
في مطلع الستينيَّات الميلادية يمَّم الشيخ وجهَه شطرَ المملكة العربية السعودية، وهناك عُرف فضلُه وقُدِّر علمُه فاختير مع أخيه العلَّامة المربِّي عبد الرحمن الباني لوضع سياسة التعليم بالمملكة، ووضع كثير من المقرَّرات المدرسيَّة والجامعيَّة. ويعترف للباني بالفضل في مساعدته وتوجيهه، قال لي يومًا: لولا الشيخُ عبد الرحمن الباني ما استطعت أن أفعل شيئًا، فهو الذي كان يوجِّهني ويعينني في كلِّ ما أُوكل إليَّ من أعمال في المناهج والمقرَّرات.
ثم تفرَّغ لمهنته الأثيرة مهنة التربية والتعليم، فدرَّس في مدارس مكة المكرَّمة سنوات طويلة، وبقي مقيمًا فيها بجوار مسجد (فقيه)، إلى ما قبل سنوات من رحيله.
شهادات مضيئة:
أشاد بفضله صفيُّه الأستاذ عصام العطَّار قائلًا: ((كان محمد سعيد، الأخُ الأصغر لعليٍّ الطنطاوي، أخًا لي وصديقًا أثيرًا، ووالله ما رأيتُ على طول ما عِشت، وكثرة من قابلت على هذه الأرض، أزهدَ منه ولا أكرمَ ولا أعبد، فألفُ سلام وسلام على أخي الحبيب، وصديقي الصَّدوق محمد سعيد الطنطاوي في شيخوخته ومرضه ووَحدته في مكة المكرَّمة))(5).
وأسهب الشيخ علي الطنطاوي في الحديث عن عنايته بأخيه سعيد والأخذ به في عالم الثقافة، وميدان المطالعة، وتشجيعه على طلب العلم، يقول(6): ((وأما سعيد فكنت أنا العاملَ الوحيد في تربيته الدينية والسلوكية والثقافية، صنعتُ له - والفضل لله لا لي - أكثرَ مما صنع لي أبي رحمه الله، كان أبي مشغولًا أحيانًا عني، وكنت أنا دائمًا معه، وسيَّرني أبي في طريق العلم فقط، وسيَّرته في طريق العلم وطريق الأدب معًا، حتى صار في يوم من الأيام كأنه صورةٌ مني، ونسخةٌ عني، حتى الشواهدُ التي يستشهد بها من الأشعار والأخبار، والنكت التي يرويها. ثم إن اللهجة التي يُلقي بها لهجتي أنا كما كنت أدرِّب تلاميذي عليها، وقد مرضتُ مرَّة، ولم يكن هذا الشريط المسجَّل، فنـزل إلى الإذاعة فقرأ حديثي عني، فما شكَّ أكثر السامعين أنه أنا، وإن أنكروا منه بعضَ الرقَّة في الصوت، وبعض الرِّخاوة في الإلقاء... اشتريتُ له قصَّة عنترة في ثماني مجلَّدات، وهي موضوعة وأشعارها مصنوعة، ولكنَّ فيها أخبارَ الجاهلية كلَّها، وفيها أسماء أبطالها، وأنباء رجالها، وكان ذكيًّا من أذكى الناس، فحفظ أخبارها وأشعارها، ثم جئته بفتوح الشام المنسوب إلى الواقدي، ثم خلَّيت بينه وبين المكتبة فقرأ وقرأ..)).
وقال عنه أيضًا(7): ((أخواي الصغيران عبد الغني وسعيد غلبَ عليهما الاشتغالُ بالرياضيات والعلوم، وإن كان لهما نصيبٌ كبير من علوم الدين والعربية)).
الشيخ محمد سعيد في طفولته مع شقيقه الأكبر علي الطنطاوي
(1) تشرَّفتُ بلقاء الشيخ وزيارته في مكة وجُدَّة مرَّات، وأفدتُّ في إعداد ترجمته من مشافهته، وثمرات مجالسه. ومن مشافهة صديقه القديم وزميل دراسته سيدي الوالد رحمه الله، ومشافهة أخيه وصديق دربه شيخنا العلامة المربي عبد الرحمن الباني رحمه الله، ومن مقالة تلميذه وصاحبه د. محمد منير الغضبان رحمه الله، بعنوان: (محمد سعيد الطنطاوي مدرسة علمية وتربوية متميِّزة).
(2) كتبتها لموسوعة الأسر الدمشقية، للدكتور محمد شريف الصوَّاف، 2/ 576- 578.
(3) بعد تأمُّل وتحقيق، وبمعاونة الأخوين الكريمين سِبطَي الشيخ علي الطنطاوي الأستاذ مجاهد مأمون ديرانية وزوجه الأستاذة عابدة المؤيَّد العظم جزاهما الله خيرًا، انتهيت إلى أن تاريخ ولادة الشيخ سعيد الطنطاوي على الصواب: في الأشهر الأربعة الأولى من عام 1343 هـ، وفي الشهرين الأخيرين من عام 1924 م، والله تعالى أعلم.
(4) ومن زملاء دفعتهما، وقد غدَوا جميعًا من أعلام الفيزيائيين في سوريا الأساتذة: سيف الدين بغدادي، وعدنان محاسب، وفاروق السلكا، وعبد الله واثق شهيد، وأحمد رضا حتاحت، ومحمد المصري، وبديع السلَّاخ، وزهير الفقير.
وكان نظم الشيخ سعيد الطنطاوي قصيدةً جمع فيها أسماء زملاء دفعته جميعًا، مطلعُها:
أنا امرُؤٌ سعيدُ= لأنَّني بعيدُ
عن معهدِ الآدابِ= ومَرتَعِ الذِّئابِ
لأنَّ في صفِّي معي= كلَّ هُمامٍ ألمعي
فرأسُ مَن في صفِّنا= أحمد أفندي ذو الغـنى
(5) عن مقالة عصام العطَّار (أنا وعلي الطنطاوي لمحاتٌ من ذكريات).
(6) ذكريات علي الطنطاوي 2/ 112.
(7) الذكريات 4/ 85.