كم منزل في الأرض يألفه الفتى، وحنينه أبدا لأول منزل”، لما يملك الإنسان الحب والإخلاص لوطنه فإنه لابد أن يتمسك به كما يتمسك الطفل بأمه، ويبقى منزله الأول مهما بلغت به الأقدار. فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى أديب مرهف الحس، حمل شعار العشق للوطن الذي أنجبه و يعيش له، لاسيما وهو شاعر و مترجم و صحفي مثل بدل رفو. ألا يكون ذلك الفتى الَذي أنشَد عنه الشعراء و الذي يأبى أن يكون له منزل سوى منزل الأجداد ليكبر هذا الحنين إرادته ويوصله إلى مبتغاه، في الوقت الذي كانت كبوات ودموع وعرق يمازجها عزم و إصرار تلحق بطفولته و ريعان شبابه قبل نيل ما هو عليه اليوم.

لقد عشت لحظات مثيرة ، بمنتهى العاطفة ، ممزوجة بدموع ذرفتها لاشعوريا وأنا أشاهد في الغربة ،على الانترنيت وعبر الايميل لقاء تلفزيونيا على شاشة Duhok.Tv المحلَي خلال برنامج “سيريان” ألذي يعدَه و يقدَمه الصحفيَ الشَاب “هلكورد قهار”. كم بدا السَيَد رفو جميلا في صراحته لمَا أعطى خلال لقائه صورا واقعية وكأنَه صوَرها بكاميرته الماهرة الَتي عوَدتنا على تصوير الجبال و القصور العتيقة و المتاحف العالميَة كأنَها لوحات رائعة رسَمت بيد فنَان تشكيلي مبدع. لقد صوَر بدل لمشاهديه صورا عن مراحله الماضية التي مرَت به جريحة و مؤلمة و ما زالت آثار هذه الجروح خالدة في نفسه لم تشف بعد إلا إذا واساها بالكتابة و التعبير والترجمة و القصيدة والصور الفوتوغرافية. وكم تبدو رغبة استرجاع الطفولة لديه ملحَة دائما وكأنَها رغبة حمامة تحاول أن تنجو من قفص لتطير في الفضاء حرَة طليقة.

بدا بدل رفو في لقائه الصّريح وكأنَه يلقي سؤالا على مشاهديه: هل بوسع الأديب أن يصارح شعبه بماضيه ما دام يكتب لشعبه وقلبه؟ كيف لا، و شعار الصَحفي هو الصَراحة مع شعبه. لذا عليه قبل أيَ شيء أن يعترف بماضيه دون خوف أو خجل. و كل من شاهد لقاءه التلفزيوني الأخير من المؤكَد أنَه استشفَ شيئا عن حقائق وأسرار هذا الأديب. كم صارع حياة مريرة من البؤس والشَقاء والألم و الفقر. لقد أعطى أجمل القيم و أبهى صور الإنسانية والتضحية خلال عرضه لمشاهدات من طفولته الَتي كافح فيها من أجل البقاء من خلال اعتماده على النَفس.

فرغم انَه كان شبلا كزهرة لم تتفتَح أوراقها بعد، فقد لجأ للعمل مرَة كعامل في مقهى شعبي، و مرّة أخرى كحمّال و مرَة ثالثة كبائع شلغمات وهو ما زال تلميذ مدرسة. كما عمل بائع خيار على عربة أمام صالة سينما بمدينة الموصل كما ذكر في شريط لقائه ،رغم أنَه كان يدرس في المرحلة الأخيرة من الجامعة وهو يصيح على حدَ قوله في اللقاء : “خيار عل ملح .. خيار عل ملح !!”.

إنني أعدَ هذه بحق رسالة صريحة وجَهها بدل إلى بعض النَاس الَذين يملكون اليوم قصورا و سيَارات فارهة و لم يملكوا درهما حتى في ماض قريب فأصيبوا بالغرور و نسوا ماضيهم. ولو كان بوسعهم لشطبوا حتَى أسماء أجدادهم من قواميسهم. هذه هي الرَسالة الَتي تحمل في ثناياها التَضحية و العودة إلى الماضي والمضيَ قدما من أجل الوصول إلى تحقيق الأحلام و ديمومتها يوما بعد آخر، سيَما انَه استطاع رغم كلَ الظَروف أن ينهي دراسته المدرسيَة و الجامعيَة رغم وجوده ضمن عائلة مؤلفة من عشرة أفراد قاطنين في حجرة واحدة كان كلَ واحد منهم يحلم ليلة أن ينام على السَرير الوحيد الموجود في الحجرة. ورغم حرمانه من حنان الأب الَذي رحل و غادر الحياة في ظروف غامضة ،لم يزل بدل جنيناً في رحم أمه أو فراشة لم تزل تتفتَح جناحيها أو وردة لم تتفتَح أوراقها النَاعمة لخيوط الشَمس و نسيم الحياة.

وبين تأرجحه مع عائلته من زقاَق إلى زقاَق و قرية إلى قرية للفرار من أزمات الحياة، ورغم كلَ التهديدات الَتي واجهها من النَاس المناوئين لحريَة قلمه وصراحته، والغربة القاسية بعيدا عن ديار الأجداد، بين كلَ هذا وذاك قاوم بدل رفو مقاومة أديب بكلَ حنكة و صلابة بقلبه و قلمه ومشاعره كي يكون ثروة أدبيَة كبيرة. لقد حوَل نفسه إلى جسر ثقافيَ رصين يربط بلاده كوردستان و العالم الخارجي من أجل إيصال ألصَوت الكوردي إلى بلدان نائية لم تسمع قط باسم الكورد و كردستان.

ويبدو أنَه استفاد من الحياة القاسية الَتي تفجَرت له طاقات جديدة في مجالات الأدب والفن. فأنا بذلك شخصيَا أعدَه نموذجا و رمزا في الرَبط بين عالم الفقر و العوز و عالم التَجدَد و الإبداع والفنَ والشَهرة. ولولا الانتصار على عالم الجوع و تمسَكه بماضيه و صراحته له، لما تهيَأ له الانتصار في عالم الخيال والتَجدَد و الإبداع. ولولا عشقه الكبير للقلم و الكتاب و حبَ المعرفة لما تبلورت طموحاته الَتي بدأت بأضغاث أحلام صغيرة إلى أحلام كبيرة تعترف بها واقع اليوم.

تذكَرني قصَة حياة بدل رفو بالرَوائيَ الانجليزي الشَهير “وليم شكسبير” عندما كان يعمل مع والده كبائع قفَازات لمصارعة الخلاء أو ابن البصرة: السَيَاب الَذي لم ينحن قلمه ولم يذر مشاعره رغم شدَة الفقر والمرض حتى الومضات الأخيرة من عمره.

ويمضي بدل رفو “1960” الَذي ولد قرية في “الشيخ حسن” في كوردستان العراق، يمضي في لقائه لإعطاء تفاصيل أخرى من حياته عوضا عن أعماله الأدبيَة. فما أن استقرَ في مدينة الموصل منذ عمر الطفولة حتى زرعت أزقة موصل الحدباء في نفسه شعور الوجود و حبَ القوميَة و تحدَياتها و زاد شعوره أكثر بقوميته الكورديَة بعدما صفع يوما صفعة مبرَحة من قبل معلَم عنصري مجرَد أنَه سأله: لماذا ترك و أهمل موضوعا حول كردستان في الحرب العالميَة الأولى.

كانت الموصل التي تعيش فيها عرب و كورد وأقلَيَات أخرى المهد الأوَل ل رفو حينما تمكَن أن يطأ ثراها في مسيرته لترجمة مواد أدبيَة من الشَعر والنَثر لأدباء كورد من الكورديَة إلى العربيَة و خاصَة بعد أن دخل في الحرم الجامعي في بغداد.

وأول محاولاته بدأت عام 1982، ثمَ استمرَت محاولاته و كثرت نتاجاته المترجمة يوما بعد آخر و خاصَة ترجمة قصائد شعراء بادينان ل ” مجلَة الثَقافة، ألأقلام، الطَليعة الأدبيَة، هاوكاري، روشنبيري نوي، بيان و مجلَات أخرى” وكلَ ذلك كان ومازال يدرس في كليَة الآداب- قسم اللغة الرَوسيَة بجامعة بغداد والَذي تخرَج منها لاحقا عام 1985 ورغم ظروفه المعيشيَة السَيَئة التي ذكرناها آنفا.

وبعد الظروف السَياسيَة الَتي لحقت العراق عام 1991 شاءت الأقدار أن يبتعد الأديب رفو من وطنه الأم ليتَجه كلاجئ سياسي إلى النَمسا. لكنه وان ابتعد قالبا إلا أنَه ظلَ قلبا مع الوطن يناشده ويضمَه كما تضمَ الأمَ طفلها. فامتطى صهوة القلم ليظهر قوَة و عزيمة أكثر من قبل، حتى جعلته الغربة شاعرا. ومن هنا زادت مواهبه أكثر و أعتقد أنَه ربَما كان يميل إلى أدباء وقعوا في تجربة الغربة النَفسيَة الَتي اختلطت بالحنين إلى الوطن من جانب و بالسَياسة الممزوجة بالعشق من جانب آخر.

علَمته الغربة عشق الوطن و زادت من قيمة الأمَة و حبَ التراب. إن الشَئ الأكثر تميَزا فيه هو قدرته العالية في ترجمة النَص الأدبي سواء شعرا أم نثرا. فلديه إلمام جيَد بالأدب الكوردي و العربي والآداب الأجنبيَة الأخرى ومنها ألألمانيَة. وله تجربة طويلة في عمليَة الترجمة الأدبيَة والبناء الفني للنَص الشَعري الذي يترجمه من لغة وثقافة إلى لغة و ثقافة أخرى، إضافة إلى تماسكه بالقيمة الجماليَة لموسيقى الكلمة و عذوبتها. وينقل للقارئ الصورة الَتي رسَمها الشَعر وكأنَ بدل هو صاحب القصيدة.

لم تقف أعماله عند حدَ الترجمة والشَعر وحسب و إنما قطعت هذه الحدود إلى أبعد من ذلك، فمرَة هناك رحلة مع الأدب، ومرَة أخرى رحلة إلى الطَبيعة والجمال و مرَة ثالثة مع أفلام المغامرات والحضارات الغريبة و تَفقَد مناطق جبلية أو قصور الملوك والفراعنة و غيرها.
ومن المميز في شخصيته الفنية حبَه الشَديد للتَصوير الفوتوغرافي و براعته في التقاط لقطات مناسبة في لحظات مناسبة. إضافة إلى إتقانه الجيَد في إلقاء القصائد. لقد عرف بدل رفو بألقاب عديدة منها الرَحَالة ابن بطوطة كوردستان”د.خالد يونس خالد”، السَندباد”جلال زنكابادي” و سفير الأدب الكوردي”إبراهيم القهوايجي” نظرا للخدمة الَتي قدَمها للأدب الكوردي و شهادات التَكريم الَتي منحت له في دول عديدة.

وهذه الألقاب لم تأته صدفة و إنما جاءت تتناسب و أعماله و نشاطاته الثَرَة أينما حلَ بساطه السَندبادي الذي يعدَ خدمة إنسانية جليلة وحلقة وصل متينة بين الكورد والمجتمعات الأخرى في العالم من أجل تعريفهم بالهويَة القوميَة الكورديَة.
إن التَكريم لدى بدل رفو يحمل معانيَ عظيمة لا تقدّر بمال، كما صرَح في لقائه، و ما يهمَه هو الكرامة والإخلاص و النَزاهة في العمل.

وهو يرى تكريمه شهادة تقدير للأدب الكوردي و الثَقافة الكورديَة قبل أن يكون تكريما ل بدل رفو. والحقَ أنَ التكريم بحدَ ذاته يستحقَه بدل الَذي لا يبدو عليه التعب و الإرهاق مهما صال وجال. فكم من رحلة مضنية وشاقَة شقَها رفو من النَمسا إلى كازاخستان ومن هناك إلى المغرب، ومن بلاد الفراعنة إلى كردستان ومن هناك إلى جبل الألب. هكذا في رحلة دؤوب من أجل رفع الكلمة الأدبيَة عبر قلمه الَذي يأبى أن يستريح حتى آخر ومض في آخر دقيقة من عمر صاحبه.

إن أعزَ ما أثّر في نفس بدل ليس تكريمه في مصر أو المغرب أو كازاخستان و حسب بل تكريمه في كوردستان من قبل الفرع الأوَل للحزب الدَيمقراطي الكوردستاني، مثنيا على ما قدَمه خلال مسيرته الإبداعية الثَرَة و كونه من روَاد الأدب الكوردي. و ثمَّن بدل رفو هذا التَكريم بمثابة هويَة الثَورة الكورديَة لمَا لها من قيمة كبيرة في نفسه. وفي مهرجان تكريمي شعبوي في 7\10\2010 ، وأمام حشد من الجمهور و المسؤولين، وعد أن يكون خادما للأرض والوطن و إعلاء الهويَة الثَقافيَة الكرديَة.

وأشاد ببعض الأدباء المخلصين الذين طواهم النَسيان رغم الخدمة الثَقافيَة الجليلة الَتي قَدَموها أمثال صديق شبابه الأديب شريف آميدي و غيره. كما نصح كلَ أديب بالابتعاد عن الأنانيَة و المصالح الشَخصيَة والمزايدات الوطنيَة والتَنحَي عن الشَعارات، مؤكَدا أنَ ما قام به شخصه ليس ملكا له وإنما يعود لتاريخ شعبه وتعرَفهم للشَعوب الأجنبيَة والحفاظ على الإرث الثَقافي الكوردي و خدمة الأجيال القادمة. ويكفي أنَ بدل اليوم يمتلك مكتبا زاخرا بمختلف ألوان الأدب والثَقافة والفنَ ونشرت له العديد من الكتب مثل: ومضات من الشَعر الكوردي المعاصر1989، أغنية الباز، قصائد كرديَة مترجمة 2001، طالما تدور الأرض2001، انطولوجيا شعراء النَمسا2008، انطولوجيا شعراء النمسا بالكوردية 2008، وطن اسمه آفيفان2009،

آفيفان قصائد عبدالرحمن مزوري 2009، دم الصَنوبر2010،قصائد حب نمساوية 2010،، قصائد حب كورديَة2010،وله مجموعة كتب حاضرة للطبع. إضافة لمشاركاته في العديد من المهرجانات الشَعريَة في مختلف دول العالم .وكتب العديد من المقالات حول رحلاته و ركَز انطباعاته ككوردستاني حول متاحف وأماكن تاريخية عريقة في الكثير من الدول العالميَة. ناهيك عن كثير من الكتابات الَتي كتبت بإعجاب عن شخصيَة بدل رفو من قبل كتَاب و نقَاد عرب و غربيَين معروفين، و تعرَف على العديد منهم مثل أدباء نمساويَين: سونيا هارتر، ألفريد كولاريتش، ماريا ئينكيبورك اورتنر، فرانس هوفر،بربارا كاتس وغيرهم.

إضافة إلى أدباء عرب كثيرين حيث لا يتَسع المقام لذكرهم جميعا. هذا ما جعله أن ينتمي إلى العديد من نقابات صحفيَين و اتحادات أدباء و يكون عضوا فاعلا فيها سواء على صعيد صحفيَي العراق إقليم كردستان أو النمسا منذ أعوام الثَمانينيات و لحدَ اليوم.

هكذا كشف هذا اللقاء التلفزيوني عن مكنون الشَخصيَة الحقيقيَة للأديب بدل رفو ابتداء من انتصاره على معاناة الطفولة مرورا بمناجاة النَفس و الغربة و انتهاء بإبداعاته الأدبيَة والفنيَة.

بدل رفو، بلحيته البيضاء و خفَة ظلَه وابتسامته الدَائمة، يذكَرنا بالتضحية و الإحساس والتَفاؤل والإنسانية و الطبيعة والمتعة والجمال و الذَوق السَليم. يذكَرنا بآفيفان الابنة و آفيفان الوطن، فشتَان بين الاثنين في نظره لأنَه يريد أن يضمَ وطنه كما يضمَ ابنته الوحيدة الغالية. هو الإنسان ، رجل الأدب الحاذق و الكلمة الصَادقة و الهويَة الوطنيَة و ألبوم تذكارات يحمل في ثناياه صور الوطن والتضحية والأمل الدَائم. انَه ثروة مهمَة لنقل آداب و ثقافات شعوب كثيرة بتجرد وصدق. انَه عاشق الأدب، عاشق الشَعر والطَبيعة، انَه بدل رفو!


المراجع

ainnews.net

التصانيف

سيرة ذاتية  أدب  تراجم  شعراء   العلوم الاجتماعية