بقلم اللواء ركن عرابي كلوب
ولد صلاح مصباح خلف في” حي الحمام المحروق ” بمدينة يافا
بتاريخ 31/8/1933م في أسرة متوسطة الحال أصلها من غزة ومتمسكة بالقيم
والأخلاق الحميدة ، ذلك أن جده لوالده كان عالماً أزهرياً ، كان صلاح منذ
صغره عطوفاً حنوناً ، صادقاً في مواجهة الباطل ، جاداً في معاملة أقرانه ،
يقدس الكرامة وعزة النفس ، يحسن الصمت ، والاستماع الجيد إلى رفاقه ، كما
كان محل تقدير واحترام معلميه ، بتاريخ 13/5/1948م اضطرت أسرته مغادرة
مدينة يافا إلى غزة عن طريق البحر ، حيث أكمل صلاح خلف دراسته الثانوية
فيها عام 1951م ، ثم التحق بكلية درا العلوم التابعة لجامعة القاهرة ، وفي
نفس العام التقى بياسر عرفات وتوطدت العلاقة بينهما من خلال تأسيس الاتحاد
العام لطلبة فلسطين ، حيث قاد اتجاه التوحيد في الاتحاد كل من/ ياسر عرفات ،
صلاح خلف ، عبد الفتاح حمود ، سليم الزعنون ، زهير العلمي ، وبرزت أهمية
الاتحاد في كونه الجنين لأول تجربة فلسطينية علنية تمتعت بهامش الاستقلالية
. وذلك بفضل الروح الوطنية التي سادت قيادتها وأعضائها ، وقد لعب هذا
الاتحاد دوراً أساسياً ونقابياً في ترسيخ بذور الاستقلال الوطني وبعث
الهوية الفلسطينية .
في الثامن والعشرين من فبراير 1954م قام الصهاينة بغارة عسكرية على غزة فنظم الطلاب الفلسطينيون في مصر على أثرها إضرابات ومظاهرات ، وكان صلاح خلف على رأسها حيث تقدموا إلى السلطات المصرية بثلاث مطالب :
1. إلغاء نظام التأشيرات لدخول غزة والخروج منها .
2. إعادة المواصلات الحديدية بين القاهرة وغزة .
3. فرض تدريب عسكري إجباري على الفلسطينيين للدفاع عن أنفسهم ،
هذا وقد تم لقاء مع السلطات المصرية مع ممثلين عن الطلبة المضربين وناقشوا
معهم مطالبهم ثم أصدروا الأوامر بتنفيذها .
تخرج صلاح خلف من كلية دار العلوم / قسم الفلسفة عام 1957م
وحصل كذلك على دبلوم تربية وعلم نفس وعاد إلى قطاع غزة ليجد أمامه ملفه
الحافل بقصص المشاغبات والتمرد ، فتم تعيينه عقاباً له مدرساً في مدرسة
الزهراء الثانوية للبنات انتقاماً لسابق مسلكه ولمنعه من ممارسة النشاط
السياسي بين الطلاب الذكور ، وبعد مضي ستة أشهر على هذا الحال تم نقله إلى
مدرسة خالد بن الوليد الثانوية للبنين في المنطقة الوسطى ( النصيرات )
ليعاود نشاطه السياسي .
تعاقد صلاح خلف مع بعثة الكويت عام 1959م للعمل مدرساً فيها
ونظراً لنشاطه السياسي آنذاك فقد غادر مدينة غزة مكبلاً بالأغلال وتحت
الحراسة المصرية حتى سلم الطائرة في مطار القاهرة الدولي .
عام 1959م تزوج صلاح خلف من ابنة عمه المقيمة في القاهرة ورزقا بستة من الأبناء والبنات ( ثلاثة أولاد وثلاثة بنات ) .
وفي الكويت وبعد أن استقر به الحال انضم صلاح خلف وبعض من الأخوة إلى من سبقوهم من المؤسسين لحركة فتح حيث كانت فرصة للالتقاء مع ياسر عرفات مرة ثانية وخليل الوزير وفاروق القدومي وخالد الحسن وسيلم الزعنون وعبد الله الدنان وعادل عبد الكريم وآخرين من تنظيم الكويت ، وكان في دولة قطر إخوة لهم ( محمد يوسف النجار – محمود عباس – عبد الفتاح حمود – كمال عدوان – سعيد المسحال وغيرهم ) يعملون بجد ونشاط على استقطاب الجالية الفلسطينية للعمل من أجل قضيتهم وتأطير من تنطبق عليهم شروط العضوية وفي سرية تامة .
أبو إياد والانطلاقة الأولى حيث شهدت أوساط حركة فتح خريف عام
1964م خلافاً حاداً حول حرب العصابات ، فمنهم من رأى أن الوقت مبكر وكان
الطرف الآخر وعلى رأسهم أبو إياد يرى أن الوضع مناسب لبدء الكفاح المسلح ،
وأن فتح ستتطور إلى حركة جماهيرية بممارسة الكفاح المسلح واستطاع أبو إياد
وبحنكته وحكمته من إقناع المتحاورين برأيه ، حيث جرى توقيت ميعاد أول عملية
عسكرية بتاريخ 31/12/1964م ومنها كانت انطلاقة البلاغ العسكري الأول باسم (
العاصفة ) ، هذا ورغم المضايقات العربية وضآلة الدعم الخارجي والخلافات
التي نشبت داخل حركة فتح واصلت الحركة حرب العصابات مما زاد من التوتر بين
إسرائيل والبلدان العربية .
لقد شكلت هزيمة حزيران 1967م نقطة انطلاق جديد لحركة فتح ،
فأقيمت قواعد لها على طول نهر الأردن حيث آزرهم السكان المحليون والقوات
الأردنية .
مرحلة جديدة في مسيرة الحركة بعد هزيمة حزيران 1967م حيث عقدت
اللجنة المركزية للحركة مؤتمراً في دمشق بتاريخ 12/6/1967 ناقشت فيه جدوى
استئناف الكفاح المسلح بعد الهزيمة واتخذت القرارات التالية :
– تكليف لكل من الأخوة / محمد يوسف النجار ، صلاح خلف ، عبد
الفتاح حمود ، بالعمل على تنظيم الحركة بما يتناسب والمرحلة الجديدة على أن
يتم تفرغهم لهذه المهمة .
– توجيه نداء إلى جميع المناضلين لجمع السلاح الذي خلفته الجيوش العربية في ساحات المعارك وكذلك شراء السلاح من التجار والمهربين .
– حملة تبرعات من الأثرياء الفلسطينيين ومن دول النفط .
– إرسال عدد من الأطر القيادية إلى الأرض المحتلة لتوسيع العمل والاستعداد للعمليات الفدائية .
– إرسال وفود إلى كل من مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا
حيث كلف كل من صلاح خلف ، وفاروق القدومي بزيارة إلى ليبيا في العهد الملكي
عام 1967م وقاموا بجمع تبرعات سخية من الشعب الليبي إلى حركة فتح بالتعاون
مع اللجان الشعبية .
تفرغ صلاح خلف في إطار حركة فتح في العام 1967م حيث بدأت
الحركة بتثبيت هيكلها التنظيمي وتوزيع مهامها على أعضاء اللجنة المركزية
حيث أسندت اللجنة في اجتماعاتها مهمة تشكيل جهاز أمني أطلق عليه جهاز الرصد
الثوري وتولى مسؤوليته صلاح خلف ( أبو إياد )، وبذلك يكون قد تم إنشاء أول
جهاز أمني للثورة الفلسطينية .
شارك القائد / صلاح خلف بجانب قيادة حركة فتح وعلى رأسهم
القائد / ياسر عرفات في معركة الكرامة بتاريخ 21/3/1968م ، قام القائد صلاح
خلف وعلى مسؤوليته بإصدار بيان اللجنة المركزية للحركة يعلن فيها تسمية
ياسر عرفات ناطقاً رسمياً باسم حركة فتح ، وبالتالي باسم العاصمة دون علم
القيادة بما فيهم ياسر عرفات نفسه ، وذلك بتاريخ 14/4/1968م حفاظاً على
وحدة الحركة حيث وصلته معلومات تفيد بأن أحد كوادر فتح يستعد لإعلان نفسه
قائداً لقوات العاصفة ، ثم أتبعه بنشر تصريح باسم ياسر عرفات يعلن فيه
قبوله بالمسؤولية الجديدة وذلك إنقاذاً للموقف .
توجه صلاح خلف وفاروق القدومي إلى مصر لمزيد من كسب التعاطف
والتأييد والمساندة لحركة فتح ، حيث التقيا بالأستاذ / محمد حسنين هيكل
الذي رحب بهما وأثنى على حركة فتح ونضالها الوطني ثم اصطحبهما إلى الرئيس /
جمال عبد الناصر الذي استقبلهما بحفاوة وترحيب شديدين .
بدأت العلاقات مع الرئيس / جمال عبد الناصر ، وأقام صلاح خلف علاقات متينة مع جهاز المخابرات المصرية الذي تلقى تعليمات من الرئيس جمال عبد الناصر بالتعاون وتقديم كل المساعدة لحركة فتح ، فكان طلب أبو إياد من المخابرات المصرية هو التدريب لمجموعة من الكوادر ، وجاءت الموافقة الفورية على الطلب وقام أبو إياد بنفسه باختيار مجموعته القيادية لقيادة جهاز الرصد الثوري من تنظيم حركة فتح في كل من مصر والكويت والسعودية وسوريا والأردن ، وترأس الجهاز واختار ” علي حسن سلامة ” نائباً له ، وقام بإرسال أول مجموعة من كوادر الحركة إلى مصر ليتلقوا دورة أمنية مكثفة في مقر المخابرات العامة المصرية لمدة ثلاثة أشهر ، وبعدها أرسلت الدورة الثانية ، كانت نظرة أبو إياد لتشكيل هذا الجهاز المعاناة من الاختراق الأمني لتنظيماتنا الفلسطينية من قبل العدو الصهيوني ، لذا كان كل تفكيره أن يكون لدى الحركة جهاز أمن قوي .
استطاع أبو إياد أن يرسخ مكانة الجهاز في الثورة الفلسطينية
عبر انتقاء عناصر الجهاز ودعمه بكوادر مؤهلة ومدربة ، وأصبح الجهاز بمثابة (
أمن ) منذ عام 1969م ، وبرز كقوة شبه مستقلة لها شبكة واسعة من المنتسبين
والمتعاونين من الفلسطينيين والعرب في معظم دول العالم .
أصبح جهاز الرصد الثوري متكاملاً بصورة جيدة ومسلحاً بقوة
ضاربة وامتلك سمعة قوية للغاية خصوصاً وإنه استطاع أن يحقق إنجازات
مخابراتية جديدة في فترة زمنية قصيرة ضد إسرائيل .
من مميزات القائد / صلاح خلف ( أبو إياد ) التي ساعدته على
تصدر المسؤوليات الثورية ووصفه برجل المهمات الصعبة أنه كان خطيباً مفوهاً ،
وكاتبا ناجحاً ، وإنساناً صلباً جريئاً ، ومتعدد المواهب والقدرات ،
ومفاوض قدير ، ومحاور مقنع ، طويل النفس ، صبور ، معتد بكرامته ، ووطني
صادق ، متفانٍ في أداء رسالته الوطنية على حساب زوجته وأسرته وأولاده الستة
إلى جانب والديه وأخوته الذين لا يراهم إلا نادراً ، وخلال فترات متباعدة
وعندما تسمح له ظروفه بزيارة القاهرة حيث يقيمون .
صاغ صلاح خلف في شهر أكتوبر عام 1968م الهدف الاستراتيجي
للمقاومة وهو العمل باتجاه تحويل فلسطين إلى دولة ديمقراطية ، يعيش فيها
المسلمون والمسيحيون واليهود كمواطنين متساويين في الحقوق والواجبات .
بدأ اسم القائد / صلاح خلف ( أبو إياد ) يبرز كعضو في اللجنة
المركزية لحركة فتح ومسؤول الرصد الثوري ثم مفوضاً لجهاز الأمن الموحد في
منظمة التحرير الفلسطينية ، حيث تعرض لأكثر من عملية اغتيال سواء من
الإسرائيليين أم من بعض الأنظمة العربية .
في عام 1970م رافق القائد / ياسر عرفات في زيارة تاريخية إلى الصين الشعبية ، وقوبلا هناك باستقبال رسمي وشعبي بكل ود وتقدير .
أحداث أيلول واعتقال أبو إياد عام 1970م .
لقد وصلت العلاقات بين الثورة الفلسطينية والسلطات الأردنية
حد الاشتباك المسلح وذلك في شهر أيلول عام 1970م حيث تم اعتقال ” أبو إياد ”
وبعض رفاقه القياديين في هذه الأحداث ، ثم دعي إلى القصر الملكي في عمان
للقاء الوفد العربي الذي جاء إلى الأردن مكلفاً للتوصل إلى وقف إطلاق النار
وإنهاء المعارك بين الطرفين ، وقد سافر ” أبو إياد ” من عمان إلى القاهرة
على نفس طائرة الوفد العربي حيث قدم شرحاً مفصلاً عن أحداث الأردن للزعيم
الراحل / جمال عبد الناصر ، انتهى وجود المقاومة الفلسطينية في الأردن في
صيف عام 1971م بعد اشتباكات دامية حيث طويت صفحة من تاريخ الثورة
الفلسطينية في الساحة الأردنية .
بعد خروج الثورة من الأردن انتقلت القيادة الفلسطينية إلى
لبنان ، وبعد أحداث أيلول 1970م وتموز 1971م تعرض الجهاز وقيادته عموماً
لنقد عنيف ، فترك القائد صلاح خلف الجهاز وتسلم الجهاز بصفة مؤقتة (محمود
عباس”أبو مازن”) ، وبعد المؤتمر الثالث للحركة الذي عقد صيف عام 1971م في
دمشق تسلم مسؤولية الجهاز الشهيد القائد / ” أبو يوسف النجار” وعين نائباً
له حمد العايدي ” أبو رمزي ” لانشغال أبو يوسف النجار بعمل اللجنة السياسية
العليا للفلسطينيين في لبنان وتوليه رئاسة الدائرة السياسية لـ م.ت.ف .
تولى القائد صلاح خلف مهمة جهاز شؤون الأردن من عام
1971-1973م ، وبعد استشهاد القادة الثلاثة في عملية فردان عام 1973م توجهت
حركة فتح لإعادة ترتيب أولوياتها فتم إنشاء جهاز الأمن المركزي والذي تسلمه
هايل عبد الحميد وتم تأسيس جهاز الأمن الموحد في نفس العام وترأسه صلاح
خلف بتكليف من اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف بغرض توحيد الأجهزة الاستخبارية
للمنظمة .
جاء تأسيس جهاز الأمن الموحد ليكون جهازاً أمنياً يعتمد على
وسائل علمية وإدارية متطورة واعتماداً على كفاءات أمنية وعسكرية من خيرة
أبناء الثورة الفلسطينية الذين قاموا بنقل تراكم الخبرات النضالية لديهم
على مدى سنوات طويلة .
كرس القائد / أبو إياد جهده وعلاقاته وصلاته الخاصة لتعزيز
عمليات جمع المعلومات الأمنية و الاستخبارية وأقام شبكة علاقات مهمة مع عدة
جهات استخبارية في العالم وتحديداً دول المنظومة الاشتراكية في إطار
النضال الذي تقوده منظمة التحرير الفلسطينية .
كان القائد / صلاح خلف من القلة التي عرفت بعض الخفايا التي
سبقت حرب أكتوبر 1973م وما رافقها وأعقبها ، حيث أسر الرئيس أنور السادات
له طالباً إحضار عدد من الفدائيين الفلسطينيين للاشتراك في المعركة وتم
إبلاغ ياسر عرفات بذلك ، وحضر أبو إياد إدارة غرفة عمليات المعركة مع
الرئيس السادات ، وبعد حرب أكتوبر تبنى صلاح خلف مشروع إقامة الدولة على
جزء من فلسطين وصولاً إلى إقامة دولة ديمقراطية على كامل فلسطين تضم
الفلسطينيين والمسيحيين واليهود.
أثناء الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان عام 1975م كان لأبي
إياد دوراً بارزاً إبان تلك الحرب ، فقد كان أحد قادة المقاومة المكلف
بعملية المفاوضات المعقدة بين الفصائل اللبنانية مع بعضها من جهة والفصائل
اللبنانية والمقاومة الفلسطينية من جهة أخرى ، وشارك في الإعداد لإتفاقية
شتورا عام 1977م التي نظمت هذه العلاقة .
أبو إياد كان عاشقاً للكتابة ، فقد ألف مسرحيتين الأولى
بعنوان ( أيام مجيدة ) تحكي قصة رحيله وأسرته عن مدينة يافا بحراً عام
1948م ، والثانية تندد ضمنياً بمواقف الدول العربية من قضية فلسطين .
صدر كتاب ( فلسطيني بلا هوية ) عام 1978م للصحفي الفرنسي إريك رولو على شكل سلسلة من اللقاءات .
يعتبر القائد أبو إياد ضمير الثورة الفلسطينية وصمام الأمان
للوحدة الوطنية وصديق أحرار العالم ، وكذلك يعتبر أحد أهم منظري الفكر
الثوري لحركة فتح .
أبو إياد هو درع الثورة ، هو المفكر والمثقف والسياسي الكبير ،
والموحد الذي يجمع الساحة الفلسطينية على موقف واحد ، وعلى موقف إنساني
واحد ، وبالتالي فهو الرجل الكبير الناصع .
أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م لعب القائد /
صلاح خلف بجانب أعضاء القيادة الفلسطينية دوراً هاماً ومميزاً في تأمين
ظهور المقاتلين وفي المفاوضات التي شهدتها الساحة آنذاك حتى تم الخروج بعد
مفاوضات شاقة وعسيرة وصمود أسطوري لمدة ثلاثة أشهر متواصلة ، انتقلت بعدها
قيادة المنظمة إلى تونس الشقيقة .
حضر القائد أبو إياد إلى دمشق بعد الخروج من بيروت وذهب إلى البقاع اللبناني عدة مرات لزيارة القوات الفلسطينية هناك .
القائد / صلاح خلف الذي حاز لقب الرجل الثاني في حركة فتح
بشخصيته المؤثرة وقدرته على الحركة ونفوذه السياسي الواسع وصوته الهادر ،
لم يكن يوماً قائداً فلسطينيناً فحسب ، بل كان أهم الأسلحة التكتيكية
للحركة والثورة الفلسطينية في كل معاركها الداخلية والخارجية ومخزون الحجة ،
والمناورة السياسية الذي لا ينضب ، والمجلس العاكس لكل توترات فتح
الداخلية حين تنهال الحركة على بعضها ، مستمع من الطراز الأول ، يجذب إليه
المثقفون والمبدعون .
استطاع أبو إياد أن يحكم سيطرته على جهاز الأمن الموحد بأسلوبه الثوري الناقد والمعارض لأخطاء القيادة .
احتفظ أبو إياد بمسافة جيدة ميزت شخصيته الطاغية وأسلوبه
اللاذع وهجوميته وجرأته التي شكلت منه قطباً جاذباً للجميع ، بمن فيهم
أطراف المعارضة المختلفة سواء في حركة فتح أو التنظيمات الفلسطينية الأخرى ،
بحيث استطاع تليين أو إقناع أو تهديد أو التفاهم مع هذه المعارضة بما لا
يؤدي للتمرد أو الاقتتال .
كان الهاجس الأكبر الذي يشغل ذهن القائد / صلاح خلف ذي الرؤية
السياسية البعيدة والعقلية الأمنية والحرص التنظيمي البعيد الوحدوي
والمرونة المحسوبة هو أن يتيح المجال لكافة الأفكار والآراء والتيارات لكي
تعبر عن نفسها بديمقراطية ، كان يهرع إليه الغاضبون والحالمون ، لم يتردد
يوماً في التصدي لما كان يراه خطأ .
يعتبر القائد / صلاح خلف بصراحته المعهودة وجرأته المتناهية
بأن الثورة الفلسطينية قد حققت إنجازات وخطوات إيجابية كبيرة ولا يمكن
تجاهلها ، إلا أنه في نفس الوقت ذاته يقر و يعترف بأن الثورة ارتكبت أخطاء
فادحة في عقد تحالفات مع بعض الأنظمة العربية .
أما في حركة فتح يرى القائد / صلاح خلف أن غياب المحاسبة قد
أدى إلى ضعف الالتزام والانضباط وإشاعة الفوضى وانتشار الفساد لاسيما بين
أولئك الذين لم ينتظموا في صفوف التنظيم ولم يتعلموا مبادئها وأهدافها
وسلوكها .
لقد أدرك هذا القائد الجسور أن الرحيل المر عن معاقل المقاومة
في لبنان قد أفقدته بصورة خاصة عصاه التي كان يرفعها في وجه الظالم أو
المتخاذل ، فتنحني له الرقاب صاغرة ، ولهذا فقد عاش أبو إياد بقية حياته
يتجرع ذكريات الماضي يوم كانت الثورة في قمة شموخها وعنفوانها وفي مقدمة
ثورات العالم التحررية .
قام أبو إياد بزيارة العديد من الدول العربية والأوروبية
والاشتراكية على رأس وفود رسمية حيث أقام علاقات جيدة مع هذه الدول لصالح
الثورة .
لقد ظل القائد / صلاح خلف وفياً لعهد الثورة … أميناً على
أهدافها ومبادئها .. حيث كان من الرواد الأوائل ، لقد كان أنموذجاً عجيباً ،
تتمثل فيه فضائل وأحوال قلما تجتمع معاً في شخص آخر ، فهو على عناده في
الحق والدفاع عنه وتصلبه في العقيدة الوطنية إنسان لطيف المعشر ليس في
مقدور أحد أن لا يحبه .
كان أبو إياد حائط الصد حيث كان يقف حائلاً وجداراً منيعاً صلباً يحمي القائد العام أبو عمار من سكاكين الغدر والانقسام .
من أقوال الشهيد القائد / صلاح خلف ” أبو إياد ” :
• هذه الحركة لا تخاف من الكلمات ولا تخاف من الشعارات .
• هذه الحركة تعرف أين مصلحة هذا الشعب وتعرف أين مصلحة هذه الأمة .
• هي تعرف أين أصدقاءها وأين أعداءها وأين تحالفاتها .
• هي تعرف كيف تتعامل معهم وليس عندها عقدة نقص في التعامل مع أي كان في هذا العالم .
• المستقبل الذي ننادي به هو وحدة م . ت . ف وشرعيتها .
• كلمة السر عن القائد الشهيد أبو إياد هي : فلسطين اليوم وغداً ومستقبلاً .
أثناء زيارته الأخيرة إلى العراق في شهر يناير 1991م بناء
لطلب الرئيس صدام حسين وقبل استشهاده بأيام قليلة وأثناء المحادثات
الثنائية حول الأوضاع التي وصلت إلى حافة الهاوية قال للرئيس صدام حسين إن
غزو دولة الكويت كان عملاً خاطئاً ، وإن العرب لديهم القدرة على إيجاد حل
للمشكلة سلمياً بدون استخدام القوة لفض النزاع .
كان أبو إياد أحد القادة الفلسطينيين الذين رفضوا هذا
الاحتلال وضغطوا لإدانة النظام العراقي ، حيث أكد أن احتلال العراق للكويت
كمن يهوى اللعب بالنار ولن نكون يوماً رهن إشارة من صدام حسين .
جريمة الاغتيال :
في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم 14/1/1991م اتصل أبو إياد
بــ أبو محمد العمري طالباً منه موافاته إلى منزل أبو الهول لمناقشة
تداعيات حرب الخليج ، فرد عليه أبو محمد أن سيارته بها عطل منذ الصباح ولا
يستطيع القدوم ، فما كان من أبو إياد إلا أن أرسل له السائق لأخذ السيارة
للتصليح ، وأخبره أن أبو إياد سوف يمر عليه بعد قليل لاصطحابه معه ، وبعد
نصف ساعة تقريباً حضر أبو إياد إلى منزل أبو محمد العمري واصطحبه في سيارته
إلى منزل أبو الهول حيث وصلا إلى هناك فاستقبلهما أبو الهول في صالون
منزله بينما بقيت الحراسات والمرافقين في باحة المنزل الخارجية لتأمين
الحراسة كما جرت العادة .
بعد جلوسهم في صالون المنزل بفترة دخل المجرم القاتل / حمزة
أبو زيد والذي كان يعمل مرافقاً مع أبو الهول إلى داخل المنزل بعد أن قامت
الخادمة بفتح الباب له حيث أنه من المرافقين المعروفين حيث توجه إلى الصالة
التي كان يتواجد بها القادة الثلاثة ووجه بندقيته إلى أبو إياد مباشرة
وأطلق النار بغزارة باتجاهه لتخترق الطلقات جسده وتمزقه ، مما دفع أبو محمد
العمري للارتماء على أبو إياد لحمايته فوجه المجرم طلقاته باتجاهه وعلى
الأثر أصيب أبو الهول بطلقات نارية بعد رفعه مسدسه ، وظل سائراً على قدميه
وخرج من الباب يصرخ لقد قتلنا الجاسوس .
نقل أبو الهول إلى المستشفى إلا أنه فارق الحياة ، هذا وبعد
أن تأكد القاتل موت أبو إياد ، أسرع إلى الدرج الداخلي وصعد إلى الطابق
العلوي محتجزاً زوجة أبو الهول وابنته لعدة ساعات حيث حضرت قوات الأمن
التونسية وحاصرت المكان ، وتم اعتقال القاتل حيث أفاد في اعترافاته أنه
مكلف باغتيال القائد / صلاح خلف ، واعترف أنه يعمل مع تنظيم صبري البنا ”
أبو نضال ” ، حيث تبين لاحقاً أن القاتل / حمزة أبو زيد تم تجنيده من قبل
الموساد الإسرائيلي أثناء وجوده في أوروبا الشرقية وخلال وجوده في الفلبين
تلقى تدريباً مكثفاً من قبل جهاز الموساد الإسرائيلي وتم تكليفه بالانتماء
إلى تنظيم المنشق صبري البنا “أبو نضال” حيث تلتقي مصلحة الطرفين.
مساء ذلك اليوم شهدت ساعات المساء منه حدثاً مأساوياً
فلسطينياً على التراب التونسي ، أضيف إلى سلسلة الأحداث التي تعج بالأسى
والفجيعة في تاريخ الثورة الفلسطينية ، فقد ارتقى كوكبة من القادة الذين
كانوا من أبرز أعمدة العمل الأمني والوطني الفلسطيني ولهم في حركة فتح
مكانة الصدارة بين إخوانهم المناضلين .
القائد الشهيد الكبير/صلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة
المركزية لحركة فتح ومسؤول الأمن الموحد في منظمة التحرير الفلسطينية أسهم
في انطلاقة حركة فتح وكان عبر مسيرة الكفاح الثوري صمام الوحدة الوطنية
والساعي لديمومتها ، رجل القبول الفلسطيني والعربي والدولي ، لم يكن يخشى
الموت ، فالشجاعة من أبرز صفاته ، فقد كان يدرك أنه مشروع شهادة ، بعملية
الاغتيال الجبانة هذه استطاعت أيدي الغدر والخيانة أن تغتال هؤلاء القادة
بيد عربية على أرض عربية ، وكانت تلك اليد العربية هي يد فلسطينية للأسف .
لقد تعرض القائد /صلاح خلف (أبو إياد) لعدة محاولات لاغتياله
حيث فشل جهاز الموساد الإسرائيلي سابقاً ، ولكنه نجح يوم 14/1/1991م على يد
المجرم /حمزة أبو زيد أحد عملاء صبري البنا ” أبو نضال ” .
أبو إياد رحلت جسداً طاهراً ولكنك بقيت محفوراً في قلوبنا
جميعاً ، سقطت شهيداً مدافعاً عن الوطن ، يا رمز العزة والكرامة ، كنت
رجلاً قوياً صابراً صادقاً صدوقاً ، و كنت الأصدق منا جميعاً ، رحلت يا
أطهر وأرجل الرجال ، تركت لنا مجداً سيدوم ، فنم قرير العين ، رحلت جسداً
وبقيت فكراً ومنهجاً .
ترجل القائد/ صلاح خلف عن فرسه للمرة الأخيرة مبكراً قبل أن تتكحل عيناه برؤية فلسطين محررة وعاصمتها القدس الشريف .
الشهيد القائد / صلاح خلف هو القائد الأفعل والأطول نفساً
والأعظم تضحية ، تلك هي عبقرية الشعب الفلسطيني … وعبقرية الإرادة
الفلسطينية .
الشهيد القائد / صلاح خلف كان أحد الإرهاصات البارزة في مولد
الثورة الفلسطينية منذ البدايات ، وعندما يسجل التاريخ الفلسطيني تاريخ
المخاض في الخمسينات والستينات من القرن الماضي فإن القائد صلاح خلف لا يقل
أهمية ومكانة عن قادة سابقين في بداية القرن الماضي .
تمر ذكراك يا سيدي ونحن في أمس الحاجة لحنكتك السياسية التي
طالما استطاعت أن تنزع فتيل أزمة أو شقاق سواء على المستوى الفلسطيني أو
العربي ، نستذكرك وساحتنا الفلسطينية منقسمة على نفسها ، وأنت من جسد
ورفاقك الأولين معاني الوحدة والوفاق ، فكم نحن بحاجة لصبرك وجراءتك ، كم
نحن بحاجة لدبلوماسيتك الناجحة ، كم نحن بحاجة لعقليتك الأمنية .
إننا مطالبون بأن نعلي أسماء قادتنا الشهداء ونحيي سيرتهم
العطرة هؤلاء الشهداء الأكرم منا جميعاً ، لأنهم الأنبل والأخلد بيننا ،
وهم الأحياء عند ربهم يرزقون .
القائد/صلاح خلف وجميع القادة يستحقون وبكل جدارة طباعة كتب
عن سيرتهم ومسيرتهم النضالية العطرة والتي ترصد خبايا قيادتهم في حركة فتح
والمنظمة ، ونناشد الأخوة في القيادة بالإسراع في ذلك خاصة وأنهم لم يوثقوا
سيرتهم النضالية لا بالكتب ولا بالتسجيل .
لقد صنع الشهداء بدمائهم الزكية تاريخ فلسطين المجيد ، هؤلاء
الشهداء كانوا فرسان فلسطين الحقيقيون ، هؤلاء صنعوا تاريخ حركة فتح
التاريخ النضالي المشرق ، هذا التاريخ جعل من أولئك القادة رموز للثورة
الفلسطينية المعاصرة ، هذا الجيل هو الذي تحمل أعباء التأسيس حيث صنعوا من
المعاناة ثورة ومن اللاجئ ثائر .
أيها القائد أحببت أبناء شعبك لأنك من عجينتهم فأحبوك ، فكيف
لهم بعد هذا أن ينسوك ، علمت أبناءك الذين ربيت فيهم معاني الحب الصادق
للوطن والعمل الجاد المخلص من أجل تأمين حياة كريمة مطمئنة لأبناء شعبك
فكيف يمكن لهؤلاء أن يخذلوك .
لقد تركت بيننا عطر سيرتك فواحاً وسمو أخلاقك محلقاً عالياً
وطيب عشرتك ملء السمع والبصر ، لقد عبدتم بدمائكم الطاهرة الطريق إلى الوطن
.
الرحمة للقائد الوطني الكبير الذي أعطى جل حياته لوطنه وقضيته
الماجدة ، وليتغمده الله بواسع رحمته ورضوانه ، ويسكنه فسيح جنانه بجوار
الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
هذا وقد حكمت محكمة الثورة الفلسطينية على القاتل /حمزة أبو
زيد بالإعدام وتم تنفيذ حكم الإعدام به بعدما تم نقله إلى اليمن ، وبناءً
على رغبة الرئيس اليمني آنذاك بعدم تنفيذ الحكم على الأراضي اليمنية وحتى
تتلافى القيادة الفلسطينية مواقف الإحراج فقد تم نقل القاتل بطائرة من
صنعاء إلى ميناء الحديدة ومنها إلى سفينة في عرض البحر الأحمر حيث المياه
الدولية ليتم تنفيذ حكم الإعدام به رمياً بالرصاص في عرض البحر ، هذا جزاء
الخونة والعملاء والمأجورين .
وهنا يبرهن للفلسطينيين أن لا كرامة للإنسان بدون وطن ولا
قيمة للفرد بدون هوية ، وعليه فإن الوطن يستحق التضحيات مهما غلت وتهون من
أجله الدماء مهما سالت .